د. نادية هناوي
يهتم الروائي أو القاص بآراء القراء والنقاد، ويحسب لها حسابًا، تختلف درجته تبعا لطبيعة تلك الآراء حدة أو فتورا ، سلبا أو ايجابا. وقد تؤثر هذه الدرجة أو تلك في الكاتب، فتجعله يراجع نفسه أو يدافع عنها أو يمضي – على الرغم من كل الاكتراث الذي في داخله -غير عابئ، مع أنه في كل الأحوال يظل في حالة مساءلة ذاتية هي جزء من اعتمال العملية الإبداعية داخله. وهذا هو الذي يعمِّق التجربة السردية ويغنيها.
ولقد اكترث الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم بالطريقة التي بها يَفهم القراء توظيف ضمير المتكلم في أعماله السردية. وقال في تقديمه للطبعة الثالثة لروايته( تلك الرائحة) ما يأتي:( المشكلة التي لا تزال تلاحقني هي ميل القراء إلى اعتبار ما أكتبه واقعا مؤكدا، حدث لي. والسبب في ذلك بالطبع هو أني أُفضل استخدام ضمير المتكلم لما يسببه من راحة.. لكن ما أكتبه لا يمكن اعتباره من قبيل السيرة الذاتية.)
إن أهمية أدوار السارد بضمير المتكلم، هي التي جعلت صنع الله إبراهيم يكترث بآراء القراء. وما تفضيله ضمير المتكلم على ضميري الغائب والمخاطب إلا لأن فيه ثمة ميزات خاصة، شرح الكاتب الكبير بعضا منها، ونبَّه في الآن نفسه إلى ما يمكن للضمير أنْ يشكله من موئل ثرٍّ للدراسة السردية؛ أولا من ناحية ما للسارد الذاتي من هيمنة موضوعية تتحقق بفرض ذاتيته على سائر المسرودات. وثانيا من ناحية تأثر هذا السارد بالعتبات النصية من أغلفة وعنوانات واستهلالات ومقدمات وإهداءات، فيغدو مطوَّقا منذ البداية برؤى افتتاحية تفرض عليه أن يتحرر منها حتى كأن لا وجود لها. وثالثا من ناحية القراء الذين يرون السارد بضمير المتكلم يمثل أناهم أو ذواتهم أو يرونه يمثل أنا الكاتب نفسه – وهو ما عدَّه صنع الله إبراهيم مشكلة – أو يتصورون أنه يمثل أنا الشخصية المتحدثة عينها لا غيرها. ورابعا من ناحية أن السارد بضمير المتكلم قد يكون رجلا، وقد يكون امرأة، بحسب السياقات السردية كما أن هناك سياقات يكون فيها هذا السارد مجموعًا بضميري( نحن، نا المتكلمين) فيفقد صفته الذاتية الأحادية.
وإذا كانت هذه الميزات خاصة بضمير المتكلم، فإن للضمائر الأخرى ميزاتها الخاصة أيضا. وما اختيار الروائي أو القاص لواحد من هذه الضمائر سوى تفضيل لميزات الواحد منها على سائرها.
ومن يعد إلى الروايات الكلاسيكية ومن قبلها الكتب التأسيسية مثل ( دون كيخوته) لسرفانتس او ( روبنسون كروزو) لدانيال ديفو، فسيجد أن ضمير المتكلم هو المختار والمفضل – وبالطبع لم يكن التفضيل والاختيار مبنيين على أي قصد مبيت أو معرفة سابقة- إنما هي تقاليد السرد العربي التي انتقلت إلى الأدباء الأوروبيين، وكان ضمير المتكلم سمة شاخصة فيها، لا على مستوى السرد وحده، بل الشعر أيضا. فاتبع الأوروبيون في عصر النهضة تلك التقاليد وساروا عليها على مدى القرون الميلادية: السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، وفيه ظهرت الرومانسية، فتركَّز ضمير المتكلم، وعلت الذاتية على صعيدي السرد والشعر. ولم يطغَ ضمير الغائب إلا مع قيام الواقعية في القرن التاسع عشر. أما ضمير المخاطب، فظهر في ثلاثينيات القرن العشرين بسبب صعود تيار الوعي في الرواية النفسية.
ولأن المناهج النقدية مستحكمة على فكر الناقد العربي، حال ذلك دون الإفادة من إشارة الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم. والإشارة بمثابة تلويحة معرفية من بعيد، فيها نظر سردي هو عبارة عن لفتة إبداعية تبرق من لدن كاتب عبقري بطريقة ما داخل السرد أو خارجه. والمفترض في هذه اللفتة أن تجد طريقها إلى النقد الأدبي، فتتطور بالتحليل الموضوعي والنظر العلمي، وتكون فيها إضافة معرفية للعملية السردية.
نقول كان بالإمكان لمثل هذه اللفتة أن تتحول الى برنامج عمل سردي، يسفر عن منظور ما، ولكن أنَّى لذلك أن يتحقق، والمنهجية الأحادية أخذت من جرف نقدنا الكثير، واستكملت المنهجيات البينية الأخذ من هذا الجرف أيضا مبتعدة به عن علم السرد.
وقد يتبادر لأذهان بعض منا أن ما ينجزه النقد الغربي في هذا المجال سابق، وأنه كاف وواف. فلا يسمح بالمقابل بأية إضافة أو تجديد. وهذا الاطمئنان لتوصلات النقد الغربي ليس بالجديد، ولا هو بالغريب؛ فلطالما نظر النقاد العرب إلى جميع ما يصدِّره هذا النقد إلينا من نظريات ومنهجيات على أنه صائب وصالح للأخذ والإتباع. بيد أنَّ الأمر ليس كذلك دائما، فثمة توصلات تحتاج منا أن نقف لها شاجبين ورافضين بعلمية ما لدينا من مرجعيات، وبمعرفية ما نملكه من أدوات. ومن اللازم للناقد الحقيقي أن يناور حين يقتضي النقاش ذلك، وأن يعدِّل حين يجد نفسه قادرا على التعديل، لا من أجل الحقيقة وحدها، بل من أجل ما لدى روائيينا وقصاصينا الكبار– وعددهم على مستوى الأدب العربي ليس بالكثير- من وعي نقدي عال ورؤى سردية، تفتح الباب مشرعا أمام النقاد، لأن يبنوا عليها ويعمقوها بعلمية. وهذه العلمية هي أهم سمة ينبغي لمن يدعي الناقدية أن يكون عليها. ولا شأن لنا هنا بأولئك الذين يرون أن الكتابة( أية كتابة) هي وظيفتهم، متوهمين أن ذلك كاف لأن يجعلهم نقادا !!.
في إطار البحث في السرد بضمير المتكلم، ينهمك منظرو علم السرد ما بعد الكلاسيكي في دراسة دور الضمائر في الطريقة التي بها تُروى الرواية أو القصة. ويولون ذلك أهمية بالغة، مفيدين من التعددية في الاختصاصات المعرفية. وهو ما لم يكن البنيويون وما بعد البنيويين قد أعطوه اعتبارا؛ لأن جلَّ اهتمامهم أنصبَ على النص حينا والقارئ حينا آخر. ولهذا السبب، استحكمت القراءات ذات البعد الواحد عليهم.
وهذا كله ساهم في الجدل النقدي، بحثا عن منظورات جديدة تسمح بفهم العملية السردية بشكل دقيق ومختلف. بيد أن تعدد التخصصات قد يكون أحيانا ذريعة في قراءة أدوار السارد بضمير المتكلم الذي له - كما قلنا - تاريخ بعيد يعود إلى العصور الوسطى التي فيها ترسَّخت تقاليد السرد، وهاجرت بعد ذلك جغرافيًا ولغويًا.
والذريعة التي نجدها في أبحاث السارد بضمير المتكلم تتمثل في صرف علم السرد ما بعد الكلاسيكي عن الأصول والتقاليد، والسير به بدلًا من ذلك نحو تفريعاتِ فروع الفروع بحجة البحث عن مستقبل لعلم السرد. وبالطبع لا تخفى النوايا في إضفاء الصبغة الغربية – إن لم نقل الأمريكية- على العلوم السردية.
ومن تلك العلوم علم السرد النسوي الذي فيه تسعى الباحثات النسويات إلى الجمع بين السردية والنسوية بغية الإفادة من مفاهيم كل واحدة منهما. غير أنَّ ثمة توجهات في هذا الصدد مخصوصة في دراسة السارد بضمير المتكلم. مما نجده في مساعي الباحثتين الأمريكيتين روبين وارهول وسوزان لانسر نحو جعل الشذوذ الجنسي( المثلية) جزءًا من دراسات النسوية تحت باب ( علم السرد التقاطعي)
ومن المفاهيم التي تأتي بها هاتان الباحثتان ضمن السياق نفسه: الخطاب السردي المتحرر، السردية التقاطعية، والسردية النسوية المثلية ودراسات السرد المثلي، وغير ذلك من المفاهيم التي ضمها الكتاب الجماعي( نحو علم سرد مثلي وأكثر نسوية ) وهو بتحرير وارهول ولانسر، وصدر عام 2015 وفيه دراسات عدة، توزعت بين خمسة فصول ينحصر البحث فيها باتجاه تفكيك أو إعادة بناء العملية السردية.
والفرضية التي عليها تقوم هذه المساعي تتمثل في التعامل مع السارد بضمير المتكلم تعاملا جنسيا بوصفه بشرا، هو أما رجل أو امرأة أو جنس ثالث فيه تجتمع الذكورة بالذكورة والأنوثة بالأنوثة. وما تذهب إليه سوزان لانسر في دراستها الموسومة( النظرية السردية المتحررة: مقاربات نسوية ومثلية) هو أن المثلية مفهوم سردي، يوسِّع خارطة السارد بضمير المتكلم التاريخية والجغرافية باتجاه علم السرد التقاطعي. وتؤكد أن ذلك هو ما( سيضع اشتراطات مستقبل علم السرد، ويعزز الأهداف الفكرية للنسوية والمثلية). وتستند في تحليلها هذا إلى نصوص من الروايات الكلاسيكية التي فيها حصلت – بحسب لانسر - التداخلات الجندرية.
ولا يخفى ما في أسقاط الرؤى الجنسية الشاذة على كينونة السارد الذاتي من رغبة في تمرير التصورات الثقافية الشاذة وجعلها تبدو طبيعية ومقبولة من خلال التمثيل بأعمال روائية، تفسرها هاتان الباحثتان من زاوية ما هما مقتنعتان به. وقد ينطلي مثل هذا التمرير على من يتصور أن هذا التوجه مخصوص بالسرد والفاعلية السردية، وما من أغراض أخرى خفية سياسية أو ثقافية، تتبطن بدعاوى البحث في العلوم السردية.
ضمير المتكلم والنوايا المبيَّتة

نشر في: 12 أكتوبر, 2025: 12:03 ص









