د. طلال ناظم الزهيري
في مفارقة لافتة، نشرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي خبرًا على موقعها الرسمي يفيد بأنها أبرمت اتفاقًا استراتيجيًا مع شركة «جوجل» العالمية بإتاحة أداة الذكاء الاصطناعي «Gemini Pro» لطلبة الجامعات العراقية مجانًا لمدة عام كامل، في خطوة وُصفت بأنها تسهم في تعزيز تفوق الطلبة وتنمية مهارات المستقبل. وبمجرد قراءة الخبر بهذه الصيغة، يتبادر إلى الذهن أن الوزارة قد خاضت مفاوضات مع ممثلي جوجل وتوصلت إلى اتفاق رسمي يضمن حصول الطلبة على هذه الخدمة بفضل جهودها المباشرة، ما يوحي بأن الأمر يمثل إنجازًا تفاوضيًا يحسب لها. غير أن الحقيقة مختلفة تمامًا عما يوحي به البيان. فعند العودة إلى مدونة جوجل الرسمية، يتضح أن الشركة نفسها هي التي أعلنت عن هذه المبادرة في إطار توسعة لخطة تعليمية عالمية تشمل مجموعة من الدول، من بينها العراق والأردن، والإمارات، ومصر، والسعودية. وجاء في نص الإعلان أن جوجل، منذ بداياتها في محرك البحث ويوتيوب، جعلت من التعلم جوهرًا لمهمتها، وأنها من خلال أداة «جيميني» تهدف إلى تزويد الجيل القادم بمهارات الذكاء الاصطناعي الأساسية وأفضل النماذج لمساعدتهم على النجاح في الفصول الدراسية والاستعداد لسوق العمل المستقبلي.
كما أوضحت الشركة أنها أطلقت ميزات تعليمية جديدة ضمن خطتها «Google AI Pro» التي تتيح لطلبة الجامعات الاشتراك مجانًا لمدة اثني عشر شهرًا للاستفادة من أدواتها المتقدمة في الكتابة والبحث وتنظيم الأفكار وتحويل النصوص إلى محتوى مرئي احترافي. وبذلك يتضح أن المبادرة لم تكن نتيجة أي تفاهمات أو اتفاقات رسمية مع وزارات أو حكومات، بل جاءت ضمن توجه تسويقي عالمي لجوجل يشمل عدداً من الدول، والعراق واحد منها. والسؤال هنا: لماذا لا تُنقل الحقائق كما هي؟ ولماذا يُسارع البعض إلى نسبة الفضل لنفسه في كل مبادرة؟ إن المهنية الإعلامية تقتضي دقة في نقل المعلومات، فهناك من يقرأ ويتابع ويدقق، ويدرك الفارق بين الاتفاقات الرسمية والمبادرات التسويقية المفتوحة. بعيدًا عن ذلك، ينبغي النظر إلى ما وراء هذه المبادرات المجانية، فشركة جوجل في النهاية مؤسسة تجارية تسعى إلى تحقيق الربح، وما تقدمه ليس مجانًا بالمعنى الاقتصادي، بل هو استثمار استراتيجي طويل الأمد يهدف إلى توسيع نفوذها التجاري والمعرفي في آن واحد. فالشركة تسعى أولًا إلى توسيع قاعدة المستخدمين مبكرًا، عبر جعل الطلبة والجامعات يعتمدون على منظومتها التعليمية وتقنياتها مثل «Gemini» و«Workspace» و«NotebookLM» و«Veo» في دراستهم وأبحاثهم، ما يؤدي تدريجيًا إلى نشوء تبعية تقنية تدفع المؤسسات لاحقًا إلى شراء النسخ المدفوعة من هذه الأدوات. كما أن هذه المبادرات تمثل وسيلة لتدريب السوق قبل المنافسين، إذ تتسابق الشركات الكبرى مثل «Microsoft» و«Open AI» للسيطرة على عقول الجيل القادم وتحديد أي المنصات ستصبح «الرفيق الذكي» للمستخدمين. وكل طالب يستخدم «Gemini» اليوم هو مستخدم محتمل مدفوع في المستقبل، أو ربما مسؤول في مؤسسة تعليمية أو شركة تعتمد أدوات جوجل رسميًا.
ومن جانب آخر، لا يمكن إغفال القيمة الكبيرة للبيانات التي تجمعها جوجل من خلال استخدام هذه الأدوات، حتى وإن كانت البيانات مجهولة الهوية. فأنماط الاستعمال ونوعية الأسئلة واللغات والمواضيع الأكاديمية جميعها تمثل مادة تحليلية تساعد الشركة على تطوير خوارزمياتها وتكييفها لتناسب البيئات التعليمية العربية. ولا تتوقف أبعاد هذه الاستراتيجية عند الجانب التجاري فقط، بل تمتد إلى الجانب المعرفي والثقافي، إذ تسعى جوجل إلى توحيد بيئة التعلم حول أدواتها الخاصة، بما يجعل طرائق البحث والكتابة وتنظيم المعرفة متمحورة حول منطق خوارزمياتها، وهو ما يخلق نوعًا من التطبيع المعرفي مع رؤيتها للعالم وتصنيفها للمعلومة. كما أن منح هذه الخدمات التعليمية المجانية يسهم في تحسين صورتها عالميًا وإعادة تسويقها كشريك في تمكين التعليم وليس كشركة إعلانات، وهو استثمار في السمعة قد يفتح لها مجالات أوسع في المستقبل. أما من الناحية التقنية، فإن الطلبة يشكلون مختبرًا طبيعيًا لتجربة أدوات جوجل الجديدة في بيئات حقيقية، ما يوفر على الشركة مبالغ طائلة كانت ستنفقها على عمليات الاختبار الداخلي والتجريب التجاري. فهي تستفيد من ملايين حالات الاستخدام اليومية لتحسين أداء أدواتها، في الوقت الذي يظن فيه المستخدم أنه المستفيد الوحيد من الخدمة. وفي المحصلة، ما تقدمه جوجل ليس مجانًا بقدر ما هو تبادل غير نقدي: المستخدم يمنحها بيانات وتجربة وسوقًا مستقبلية، وهي تمنحه أداة متطورة تسهّل عليه الدراسة والبحث والإبداع. إنها صفقة عادلة لمن يدرك طبيعتها، لكنها تتطلب وعيًا مؤسساتيًا من الجامعات العربية حتى لا تتحول إلى مستهلك دائم يعتمد على ما تقدمه الشركات الكبرى دون بناء استقلال رقمي أو معرفي حقيقي.










