د. فالح الحمــراني
ذكر تقرير لمعهد الشرق في موسكو بانه وبغض النظر عمّا إذا اختارت واشنطن الانسحاب الكامل لقواتها، أو تقليص وجودها، أو التحول الكامل نحو مبادرات الأعمال والطاقة، فإنها ستظل تتوجس من المخاطر الإقليمية والمحلية وتعمل على التركيز على أهم المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة.
وأشار التقرير المفصل الذي نعرض لاهم الموضوعات التي تناولها، الى ان هذا الشهر يصادف اختتام عملية "العزم الصلب"، التي أطلقتها إدارة أوباما وشركاؤها في التحالف الدولي عام 2014 لصد تقدم تنظيم داعش، في العراق. ولا تزال الخطوات العملية لإنهاء العملية وافاقها غير واضحة، لكن الافتراض العملي هو أن جميع القوات الأمريكية المتبقية ستغادر العراق نهائيًا بحلول نهاية عام 2026، مما يلقي بظلال من الشك على مستقبل العلاقات الثنائية، والتهديد المستمر الذي يشكله تنظيم داعش الارهابي. وعلى الرغم من الخلافات حول دور إيران في العراق وقضايا أخرى، تسعى واشنطن وبغداد إلى توثيق العلاقات، بما في ذلك الجانب الأمني. ويتساءل ت. أ. غانييف، المحلل العسكري الروسي الشهير والمستشرق والأستاذ في الجامعة العسكرية التابعة لوزارة الدفاع الروسية: ولكن كيف يُمكن تنظيم هذا العنصر في ضوء الانسحاب المُرتقب للقوات.
وأعاد التقرير الاذهان الى انه وبعد انتشار قوات التحالف في العراق (ثم سوريا) قبل عشر سنوات، قضى على جزء كبير من سيطرة تنظيم داعش على الأراضي العراقية، وأعاد بناء عناصر من جهاز الأمن العراقي، واستعاد الاستقرار. وبحلول عام 2017، انتهت العمليات القتالية الرئيسية ضد داعش، فركز التحالف على التعاون مع شركائه العراقيين والسوريين لمحاربة فلول داعش ومواصلة تحقيق الاستقرار للسكان المتضررين.
وكانت إدارة الرئيس السابق جون بايدن قد أعلنت في سبتمبر الماضي أن عملية الإغاثة المؤقتة في العراق ستنتهي رسميًا في غضون عام. وقد توخّت خطة تقضي بالانسحاب على مرحلتين: أولًا، إغلاق المنشآت العسكرية للتحالف في العراق بحلول سبتمبر 2025، وثانيًا، الحفاظ على وجود أمريكي جزئي أحادي الجانب في العراق "حتى عام 2026 على الأقل" لدعم العمليات ضد داعش في سوريا المجاورة. وقد أتاحت الخطة مجالًا واسعًا للمناورة، رغم أن الهجمات العديدة التي شنتها الميليشيات العراقية ضد القوات الأمريكية أثرت على قرار الإدارة بتحديد موعد نهائي وتسريع الانسحاب.
ومع تطور مهمة عملية "العزم الصلب"، تلاشت التطورات في بغداد تدريجيًا من عناوين واشنطن الرئيسية، وغالبًا ما اعتُبرت السياسة تجاه العراق ثانوية مقارنةً بالاستراتيجية الأوسع تجاه إيران. واليوم، يجادل بعض المسؤولين الأمريكيين بأن الانسحاب الكامل للقوات يُخاطر بتكرار دورة "الانتشار، والانسحاب، والعودة السريعة"، بينما لا يرى آخرون أي مبرر لوجود غير محدد. وتُؤدي التخفيضات الكبيرة التي أجرتها إدارة ترامب في الإنفاق الحكومي إلى مزيد من عدم اليقين، لا سيما فيما يتعلق بكيفية تمويل مهمة مكافحة داعش وغيرها من الجهود الأمريكية الحيوية على المدى الطويل.
في غضون ذلك، تسير بغداد على حبل مشدود. ويرى القادة العراقيون أن انتهاء عملية داعش فرصة لاستعادة السيادة "الكاملة"، وإن تنويع العلاقات مع القوى الأجنبية الأخرى من بينها الولايات المتحدة، فرصة لجذب الاستثمارات الأجنبية. ومع ذلك، فإن تحقيق كلٍّ من هذه الأهداف صعب نظرا لمعارضتها من قبل بعض الجماعات المسلحة ودوائر سياسية لها اجندتها الخاصة.
ويبدو أن الرئيس ترامب نفسه يُفضّل الانسحاب الكامل للقوات (على غرار أهداف ولايته الأولى في سوريا)، وقد أعلن مرارا وقوفهً ضد "الحروب الأبدية"، لذا قد تُحاول الإدارة اتباع نهجه هذا. ومع ذلك، فإن خطر عودة ظهور داعش، وخاصةً في سوريا المجاورة، يثير قلق العديد من المسؤولين الأمريكيين وقد يدفع الرئيس ترامب إلى إعادة النظر في موقفه، فعلى الرغم من انخفاض مستوى هجمات داعش حاليًا، لا تزال هناك مخاوف بسبب بطء وتيرة إعادة المقاتلين المحتجزين في سوريا والعراق الأجانب إلى أوطانهم، وعدم استقرار الوضع السياسي العام في سوريا، وشهدت علاقة الولايات المتحدة بالحكومة الانتقالية للرئيس أحمد الشرع توتّرًا في الواقع. في النهاية، قررت الولايات المتحدة الاحتفاظ بنحو 1400 جندي في سوريا للتقليل من المخاوف من داعش، لكن تبقى الحقيقة أن عمليات القوات الامريكية في سوريا لا تزال مدعومة إلى حد كبير من قِبل العسكريين الأمريكيين والبنية التحتية الأمريكية المتمركزة في العراق.
ومهما كان النهج الذي سيختاره المسؤولون الأمريكيون في نهاية المطاف في العراق، فإن هدفهم الأساسي سيكون تعزيز المصالح الاستراتيجية الأمريكية الحيوية في البلاد. وسيظل التعاون الأمني، بشكل أو بآخر، جانبًا أساسيًا من العلاقة الثنائية، حتى لو كان ذلك فقط للوقاية تفاقم الاوضاع الإقليمية المستمرة. وهذا التعاون مُكرّس في اتفاقية الإطار الثنائي لعام 2008، ويشمل تبادل المعلومات الاستخباراتية حول التهديدات المشتركة وبرامج التدريب والتجهيز لتعزيز القدرات العسكرية العراقية. هذه "التكاليف الغارقة" الكبيرة - مقترنة باحتمال عودة داعش والتحديات من إيران - تزيد من احتمال احتفاظ واشنطن بعنصر أمني قوي.
في ضوء كل هذه التعقيدات، تتلخص خيارات الولايات المتحدة فيما يلي: الانسحاب الكامل للقوات. سيستلزم هذا الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية تحت قيادة مشتركة، مما قد يؤدي إلى انسحاب موازٍ للقوات من سوريا وتقليص الوجود العسكري الأمريكي الأوسع في الشرق الأوسط. وبينما يُلبي هذا الخيار مطالب العراق بسيادة حقيقية، إلا أنه قد يُثير ضغوطًا أكبر من قبل الميليشيات لتصفية ما تبقى من العلاقات الثنائية، ويزيد من خطر عودة داعش. وقد يتطلب هذا التهديد الأخير عودةً مكلفة للقوات الأمريكية في المستقبل، وهو ما تعلمت منه الإدارات السابقة درسًا قاسيًا. والسيناريو الأكثر ترجيحًا هو الحفاظ على وجود أمريكي أصغر في العراق، يقتصر على المهام الاستشارية ومكافحة الإرهاب، مع دعم العمليات في سوريا في الوقت نفسه. وكذلك التركيز في العلاقات على التنمية الاقتصادية والتحول عن الاعتماد العسكري. وبتقليص وجودها العسكري، وقد تختار واشنطن الاعتماد بشكل أكبر على مبادرات الأعمال والطاقة. ويعرب القادة العراقيون بشكل متزايد عن رغبتهم في ترسيخ الشراكة في الفرص الاقتصادية والتنويع. وتعكس دعواتهم للاستثمار الغربي، لا سيما في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتقنيات الخضراء، انهم يدركون منهم أن البلاد لا يمكن أن ترتبط وتكون تحت وصاية دولة إقليمية واحدة، أو أن تظل معتمدة على النفط. وبالمثل، تُبدي شركات النفط الأمريكية الكبرى اهتمامها المتصاعد بقدرات العراق في مجال الطاقة. ويمكن أن يصبح هذا التعاون الاقتصادي العميق ليس مجرد مُكمّل للعلاقات الأمنية، بل أيضًا أساسًا للاستقرار في حد ذاته، والذي يمكن لواشنطن استخدامه لإعادة النظر في الشراكة بشروط أقل عسكرة. من ناحية أخرى، يمكن ان يعرقل عدم الاستقرار في البلاد، سواءً بسبب عودة ظهور داعش، أو التغلغل الاجنبي المبادرات الاقتصادية الواعدة.










