TOP

جريدة المدى > عام > نذير بعصور مظلمة جديدة

نذير بعصور مظلمة جديدة

علماء امريكيون يهاجرون الى اوروبا

نشر في: 15 أكتوبر, 2025: 12:42 ص

آلان لايتمان*
ترجمة: لطفية الدليمي
يتوجّبُ على الأمريكيين أن يقاتلوا دفاعًا عن الحرية الأكاديمية، وبغير هذا فإنهم يخاطرون بخسارة ما يجعل أمتنا الأمريكية عظيمة. قد يبدو مفهوم الحرية الأكاديمية اليوم أقرب للبداهة الناجزة للأمريكيين؛ لكن جذور الحرية الأكاديمية -التي تعود إلى جامعات أوروبا في العصور الوسطى- لم تكن مؤكدة قطّ. في ذلك الوقت، عندما طالب العلماء بالإستقلالية عن الكنيسة والدولة، كانوا غالبًا ما يُوبَّخون - أو ربما يكونون عُرضة لما هو أسوأ من التوبيخ.
ما بدأ كفتيل اشتعال بطيء قاد في النهاية إلى انبعاث مفهوم جامعة البحث Research University الحديثة بعد بضعة قرون، وهذا بالضبط هو ما نجده في كتابات الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بيكون Francis Bacon وروايته «أتلانتس الجديدة The New Atlantis" عام 1627. في تلك الرواية تصوّر بيكون كليةً تُسمّى «بيت سالومون Salomon’s House"، حيث يعمل العلماء وغيرهم في جوّ من الكرم وحرية التفكير. عُرفَتْ هذه الكلية بأنها «أسمى مؤسسة (كما نعتقد) وُجِدَت على الأرض، ومصباح هذه المملكة»، كما وصفها حاكم يوتوبيا بيكون الخيالية. «إنها مصمّمةٌ لتختصّ بدراسة أعمال الله ومخلوقاته».
أبحر إثنا عشر من الزملاء المقيمين، الذين يُطلق عليهم اسم «تجار النور Merchants of Light"، إلى دول أجنبية ليجلبوا معهم كتبًا ومعارف من بلدان أخرى. ابتكر العديد منهم تجارب في كلٍّ من «الفنون الميكانيكية» و»العلوم الليبرالية»، ما أدّى في النهاية إلى ابتكار تقنيات مثل المجاهر (المايكروسكوبات) وأجهزة السمع. ازدهر الإختراع في ظل روح من الخيال والبحث غير المقيّد. كان بيكون رائدًا لعصر التنوير. بعد قرون من التقدّم الفكري يواجه الأمريكيون سؤالًا مُريعًا وخطيرًا: هل نحنُ اليوم في انحدار من النور إلى الظلمة؟
منذ 22 أبريل/نيسان 2025، وقّع ما يزيدُ عن 500 من قادة الكليات والجامعات والجمعيات العلمية الأمريكية بيانًا احتجاجيًا على التدخّل غير المسبوق لإدارة ترامب في التعليم العالي، وهو تدخّلٌ طال الإشراف الخارجي على معايير القبول، وتوظيف أعضاء هيئة التدريس، والإعتماد، والهيمنة الأيديولوجية، وفي بعض الحالات طال حتّى المناهج الدراسية. وكما جاء في البيان فإنّ «التعليم العالي في أمريكا منفتحٌ على الإصلاح البنّاء. ومع ذلك، يجب علينا معارضة التدخل الحكومي غير المسوّغ في حياة من يتعلمون ويعيشون ويعملون في جامعاتنا».
كان الطلاب الدوليون من بين أوائل المستهدفين بشكل خاص من قِبَل الإدارة الأمريكية. في جامعتي حيث أعمل منذ سنوات عديدة، معهد ماساتشوستس للتقنية MIT، أُلغيت تأشيراتُ تسعة أعضاء على الأقلّ من مجتمعنا - طلاب وخريجون جدد وباحثون في مرحلة ما بعد الدكتوراه -، وسُحِبَت منهم تأشيراتهم وأوراق هجرتهم بشكل مفاجئ. أرسلت رئيسة معهد ماساتشوستس للتقنية، سالي كورنبلوث Sally Kornbluth، مؤخرًا رسالة إلى مجتمعنا الأكاديمي، ورد فيها:
"للوفاء بمهمتنا العظيمة، يسعى معهد ماساتشوستس للتقنية جاهدًا إلى تحقيق أعلى معايير التميّز الفكري والإبداعي. وهذا يعني أننا نعمل، ويجب أن نعمل، وبشكل استثنائي، على جذب ودعم الموهوبين ممّن يمتلكون الدافع والمهارة والجرأة لرؤية واكتشاف وابتكار ما لا يستطيع غيرُنا تحقيقه. وللعثور على هؤلاء الموهوبين نحنُ نفتح أبوابنا للمواهب من جميع أنحاء الولايات المتحدة ومن جميع أنحاء العالم». في الماضي مثّل معهد ماساتشوستس للتقنية والعديد من مؤسسات التعليم العالي الأخرى لأمريكا ما مثّله «تجّار النور» بالنسبة لبيكون.
ثمّة خليطٌ من الفوائد الملموسة وغير الملموسة ينتجُ عن الحرية الأكاديمية.
أولاً، الفوائد الملموسة. يجب أن ينزعج عالَم الأعمال من التشويش المقترح لأعظم محرّك للإختراع والإبتكار والإزدهار الإقتصادي في أمتنا. على سبيل المثال لا الحصر: تم تطوير الإنترنت في شبكة تدعى أربانت ARPANET من قبل باحثين في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس وجامعة ستانفورد ومعهد ماساتشوستس للتقنية تحت إشراف وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة DARPA في أواخر الستينات والسبعينات من القرن العشرين. هاكُمْ أمثلة أخرى: تم تطوير المفاهيم والمواد الرئيسية لبطاريات الليثيوم أيون في جامعة تكساس وجامعة أكسفورد. تم تطوير أول قلب إصطناعي من قبل روبرت جارفيك وزملائه في جامعة يوتا. نشأت غوغل كمشروع بحثي شرع فيه لاري بيج وسيرجي برين في جامعة ستانفورد. جاءت معالجة اللغة الطبيعية والشبكات العصبية والتعلم العميق - جميعها أجزاء أساسية من الذكاء الإصطناعي - من الأبحاث في معهد ماساتشوستس للتقنية وجامعة ستانفورد وجامعة كارنيغي ميلون وجامعة تورنتو. قامت جينيفر دودنا في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، بعمل جوهري في مجال تعديل الجينات باستخدام تقنية كريسبر Crisper (حصلت على جائزة نوبل في الكيمياء لعام 2020 عن هذا العمل). العديدُ من الإختراعات التقنية الأخرى، وإن لم تُنتج مباشرةً في جامعاتنا الأمريكية، تمّت رعايتُها بفضل التدريب والمعرفة المكتسبة فيها: أجهزة الحاسوب، واللقاحات، والهواتف الذكية، ومنصّات التواصل الإجتماعي، ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، وتخليق الأنسولين البشري، والتصوير بالرنين المغناطيسي (MRI)، والليزر.
بالطبع أتاحت الحرية الفكرية والإبداعية في أمريكا إنتاجية هائلة تتجاوز بكثير حدود العلم والتقنية. من الأمثلة على ذلك ويليام جيمس في الفلسفة وعلم النفس، وتوني موريسون في الأدب، ونعوم تشومسكي في اللغويات والعلوم المعرفية، وهانا أرندت في النظرية السياسية، ومارثا نوسباوم في القانون والأخلاق، ومارغريت ميد في الأنثروبولوجيا، ودبليو إي. بي. دوبوا في علم الإجتماع، وجون راولز في الفلسفة السياسية، وسوزان سونتاغ في النقد الثقافي، وجون ديوي في الفلسفة والتعليم، والكثير سواهم.
ساهمت بلادنا -وهي دولة حديثة العهد نسبيًا؛ لكنها دولة نشأ فيها الشغف بالحرية منذ الثورة الأمريكية عام 1775- في بناء العالم الحديث، وساعدت البشر على بلوغ أقصى قدراتهم وإبداعهم. الحرية الأكاديمية هي ما جعل أمريكا عظيمة. على النقيض من ذلك، قُمِع الإبتكار في الدول الإستبدادية بقبضة خانقة على الحرية الأكاديمية. في الصين، وعلى الرغم من الإستثمارات الكبيرة في البحث والتعليم العالي، تُعدُّ موضوعاتٌ مثل الإصلاح السياسي، و تجمّع تيانانمين، وحقوق الإنسان،،،، من المحرّمات المحظورة. حدّت هذه القيود من البحث المفتوح في العلوم الإجتماعية والإنسانية. في إيران، أضعفت القيود المفروضة على دراسات النوع الإجتماعي والنقد الديني وحرية الإنترنت مؤسساتها الأكاديمية وعرقلت التعاون الدولي. وفي روسيا تسبّب قمع الحرية الأكاديمية منذ عام 2010 في رحيل العديد من المفكرين والعلماء المستقلين ممّا أضعف الإبتكار و قوّض نقد السياسات الحكومية. كثيرًا ما يغادر الأكاديميون والباحثون الموهوبون إلى بلدان تتمتع بحرية أكبر، آخذين معهم خبراتهم وإمكانياتهم الإبتكارية، كما يتضح مؤخرًا من الرحيل العلني للأستاذ جيسون ستانلي Jason Stanley من جامعة ييل، الذي يغادر الولايات المتحدة إلى كندا.
حيث تُرفع القيود تتفتح الأزهار. كانت كوريا الجنوبية ديكتاتورية عسكرية حتى ثمانينات القرن الماضي، ثم أصبحت ديمقراطية. في الحقبة الإستبدادية كانت الجامعات الكورية الجنوبية خاضعة لرقابة مشددة ترافقت مع حملات قمع للإحتجاجات الطلابية ورقابة على المناهج الدراسية. بعد إزالة هذه القيود سرعان ما أصبحت كوريا الجنوبية رائدة عالمية في مجال التقنية والإبتكار، وموطنًا لشركات مثل سامسونغ وإل جي. انتقلت تايوان من الأحكام العرفية في عهد الكومينتانغ إلى ديمقراطية ليبرالية في التسعينات من القرن الماضي. توسّعت العلوم الإنسانية والإجتماعية التي كانت مقيدة سابقًا بأيديولوجية مناهضة للشيوعية، بشكل كبير. طوّرت تايوان إقتصادًا معرفيًا قويًا فضلًا عن جامعات تنافسية وصناعات مزدهرة في مجال التقنية الحيوية والإلكترونيات. اليوم، وعلى وجه التخصيص، تُعدُّ تايوان موطنًا لأكبر مصنع لأشباه الموصلات في العالم، وهو شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات TSMC.
***
ما هي الحرية الأكاديمية بالتحديد؟ إنها حرية التعبير عن الأفكار ومناقشتها دون خوف من الرقابة أو مواجهة الإنتقام. إنها حرية الإستكشاف. إنها حرية إطلاق العنان للخيال. إنها حرية تبادل المعرفة مع الزملاء وغيرهم. إنها حرية التشكيك في السلطة والحكمة الموروثة. إنها حرية اختبار الأفكار بالتجربة ورفض الأفكار التي تفشل. إنها حرية الصدق حتى لو تحدى هذا الصدق الآراء السائدة. إنها حرية أن يكون المرء على حقيقته.
الحرية الأكاديمية هي أوكسجين التعليم العالي وشمسُهُ؛ فالأشياء النامية تحتاج إلى كليهما. أليست الكليات والجامعات حضانات لأعضاء هيئة التدريس والطلاب ومجتمعهم المحيط؟ نحن بحاجة إلى الهواء. غريزيًا، نسعى إلى الضوء، تمامًا كما تُغيّرُ بعض النباتات نمط نموها لتحصل على كمّية أوفر من ضوء الشمس اللازم للنمو. يُطلقُ على هذه الظاهرة إسمُ «التوجه الضوئي Phototropism". في الواقع تتبع بتلات أزهار الشمس حركة الشمس طوال اليوم، مُغيرةً اتجاهها لتشير نحو الشمس.
خدمتُ في هيئات تدريس عدة جامعات في أمريكا، وزرتُ مئة جامعة أخرى. شعرتُ بالأمان الفكري في جميعها؛ بل وأكثر من ذلك شعرتُ بالتشجيع للتعبير عن نفسي وللإستماع الحر والنقاش والتساؤل. إنّ روح الحرية الأكاديمية خفية مثل الهواء، تشعرها ولا تراها. إنها نوعٌ من التحرر، انتعاش الروح، غذاء العقل. إنه استمتاعٌ بالنور.
الحرية الأكاديمية هي أعظم درس نقدمه لطلّابنا. شبابنا يصنعون المستقبل. هل نريدهم أن يخافوا من التعبير عن أفكارهم؟ هل نريدهم أن يخافوا من الإستكشاف والإبتكار وتحدّي الوضع الراهن؟ هل نريدهم أن يخافوا من أن يكونوا على سجيتهم؟
نحن نقدّمُ لشبابنا وطلابنا أمثلةً أخلاقيةً وفكريةً. هل نريدهم أن يرونا نقيّدُ ما نُدرّسه بسبب قواعد تفرضها سلطة خارجية؟ هل نريدهم أن يرونا ونحنُ نتقصّدُ عامدين إخفاء أدلةٍ تُشكك في وجهة نظر سائدة بسبب الخوف وحده لا لسبب آخر؟ هل نريدهم أن يرونا نرفض قبول طلاب مؤهّلين آخرين بسبب نظام الحصص المحدّدة أو الإختبارات الأيديولوجية أو صلاحية بلد المنشأ؟ هل نريدهم أن يرونا نلتزم بأوامر خارجية تُقوّض قيمنا؟ هل نريدهم أن يرونا نُعطي الأولوية لسلطة المال قبل كل شيء آخر؟ هل نريدهم أن يرونا جبناء نفتقر إلى الشجاعة للدفاع عن قيمنا وقناعاتنا؟
قد يحدث نكوصٌ مخيف لمنسوب الحرية الأكاديمية في أمريكا، بل الحرية بجميع أنواعها، تدريجيًا، شيئًا فشيئًا. أولًا مع هيمنة المال والأثرياء، ثم مع الهجمات على حرية الصحافة، والسيطرة على المعلومات، وإضعاف الضوابط والتوازنات، وقمع المعارضة، ومراقبة السكان، وأخيرًا تطبيع القمع. في رواية جورج أورويل «1984»، يحكم دولة عظمى تُدعى أوشينيا ديكتاتورٌ يُدعى الأخ الأكبر، مدعومًا بعبادة شخصيته وشرطة الفكر. بطل الرواية، وينستون سمث، يعمل في وزارة الحقيقة؛ لكنه يكره النظام الحاكم سرًا. ينضمّ إلى ما يظنّهُ جماعة مقاومة، لكن يتضح أنها جزء من جهاز الدولة. يُعتقَلُ سمث ويخضع لشهور من غسيل الدماغ. في النهاية يُطلقُ سراحُهُ بعد أن يؤمن بوجوب محبّة الأخ الأكبر في النهاية. هذا ما يحدث عندما يحلُّ الظلام محل النور، وعندما تُسحَقُ حريةُ التفكير والحلم والإبتكار. لا يمكننا أن نسمح بحدوث ذلك لنا في أمريكا.
* آلان لايتمان Alan Lightman: كاتب وأستاذ في كل من قسم الفيزياء والإنسانيات في معهد ماساتشوستس للتقنية MIT. ألّف العديد من الكتب والروايات آخرها هو كتابه المنشور عام 2023 بعنوان (العقل المتسامي: الروحانية في عصر العلم)
The Transcendent Brain: Spirituality in the Age of Science
(المترجمة)
- الموضوع المترجم أعلاه منشور في مجلّة Atlantic الأمريكية بتأريخ 30 أبريل (نيسان) 2025. العنوان الأصلي للموضوع باللغة الإنكليزية هو:
The Dark Ages Are Back

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram