TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > زراعة الأوهام والخرافات

زراعة الأوهام والخرافات

نشر في: 16 أكتوبر, 2025: 12:02 ص

سلام حربه

العقل البشري مثل الأرض المحروثة الجاهزة للزراعة يتقبل أي بذر ينثر فيه، إن كان جهلا مطبقا أو علوما ومعارف، ما يزرع في العقل هي افرازات الواقع الاجتماعي السياسي وهي انعكاس للنظام الاقتصادي الممثل لطبيعة العلاقة التي تربط قوى الانتاج وتتحكم فيه سواء كان هذا النظام ريعيا أو راسماليا أو اشتراكيا. النظام السياسي الاقتصادي في البلد هو الذي يقرر طبيعة العلائق الاجتماعية بين الأفراد ونوع الثقافة وأنماط التفكير وحتى شكل التدين ان كان مزيفا أو حقيقيا. الانسان كالنبتة المزروعة في الأرض ( الواقع ) إن كانت الأرض ( الواقع ) دسمة بالمواد العصرية العضوية والانسانية المنشطة سيكون شكل النبات ( الانسان ) أزرقا كما يصف الفلاح الزرع المرتوي الناضج لشدة خضرته وان كانت الأرض بورا كان الزرع ( الانسان ) هزيلا أصفر وعوده يابسا وثمرته جوفاء لا طعم فيها ينحني أمام أية هزة ريح لأن الارض التي نبت فيها قاحلة فقيرة لا تمده بأسباب القوة والنضج والبقاء ان لم تأكله الهوام والضواري ستكنسه الريح الى العدم.
طبعا هناك مثقفون وعلماء ومبدعون من نتاج تلك المراحل السيئة وهم قلة منبوذون ومُحارَبون ويبقون فنارات عظيمة ومفاخر في المجتمع يهتدي اليهم من يريد أن يهتدي. في مجتمعاتنا الاسلامية التي تراوح في مكانها وترفض الخروج من مستنقع الماضي الذي تعشعش فيه الكثير من الأمراض الفكرية والجنون والتخلف، حتى اللامع الثمين من هذا الماضي وما أكثره، يتم تغطيته من قبل الجهلة المتعصبين من رجال الدين المتخلفين يلبسونه الظلالة والبهتان والكفر والزندقة كي يبعدوا المواطن عن النور ليبقى دائرا في حلقات الظلام والعمى الى أبد الآبدين.مازال سائدا في بعض المجتمعات الاسلامية ومنها العراق أن العدو الأول الذي يهدد وجودها هو العلم لأن بنظرهم خطر على عقل الانسان وقد يقذف به الى الالحاد ويبعدهم عن طريق الهداية والدين، هؤلاء الدين الحنيف منهم براء ومن كل ما يتفقه به هؤلاء التجار من رجال الدين.
في العراق في بداية القرن العشرين كانت هناك فتوى تحرّم التعليم لأن ( التعليم مفسدة للدين والأخلاق ) وبقي المواطن محروما لعقود من الدراسة والمدارس وأبواب العلم مغلقة الى أن عُدّلت هذه الفتوى، بعد نضال، ولم تلغ، أجازت التعليم وفتح المدارس البسيطة شرط ( أن لا يتعارض التعليم مع الأخلاق والدين ) ولم يحصل هذا التعديل لولا الجهود التي بذلها رجال العراق المتنورين، حين بدأت بعض نوافذ العلم والمعرفة في بداية القرن العشرين تُفتح عنوة، منهم محمد جعفر أبو التمن وعلي البزركان وغيرهما، لكن هذا لم يرق الى المؤسسة الدينية وبقي الصراع والكراهية قائمان حتى يومنا هذا، طرف يحاول أن يزرع العلم ويغلّب المنطق العلمي، هذا المنطق الذي يقود الى الشك في كل الظواهر الكونية واليقينيات ويخضعها الى المختبر والتجربة واعادة صياغة الحياة وفق المفاهيم الحديثة ومراجعة حقيقة كل الثوابت والاطلاق، وطرف آخر يحاول أن يبقي الواقع ساكنا سديميا والعلم بنظره لا يتعدى أن يكون بدعة جاء بها المستعمر والملحدون كي يصرفوا الناس عن معتقداتهم وايمانهم الديني الراسخ ويعطلوا المنابر الدينية التي هي المدارس الحقيقية التي يجب أن يتربى عندها الناس وما يقوله رجال الدين هو الحق والعلم الالهي السرمدي الذي لا يقبل الشك والتأويل. لقد كان الصراع على أشده بين المؤسسات الدينية والمدارس العلمية البحثية والعلوم الانسانية، بين الفكر الانساني الحداثوي وبين الفكر السلفي العدمي، وتعرض العلماء وأصحاب منهج التغيير والتجديد والتمدن في المجتمع الى حملة شعواء من قبل الحكومات المتعاقبة بدفع من المؤسسات الدينية لقتلهم وملاحقتهم في الداخل والخارج وتغييبهم ومسح أثرهم في السجون والمعتقلات.
النظام السياسي العلماني يعمل على تنشيط الاقتصاد في البلد بتطوير الصناعة والزراعة وباقي القطاعات الانتاجية لأنه على يقين أن لا تطور للبلد في المجتمع دون صناعة متطورة وزراعة علمية بمكننة حديثة توفر الغذاء للمواطن وتدعم الاقتصاد وتمنع بوار الأرض وتقضي مع الصناعة وباقي القطاعات على البطالة وتوفر النقد والسيولة الدائمة كي لا تُمد يد الوطن الى صندوق النقد الدولي او البنك الدولي لغرض الاستدانة وربطه بالعهود والمواثيق الاستعمارية ليجد المجتمع في النهاية أسيرا مكبلا بعجلة الراسمال والاستغلال. أن يكون البلد صناعيا وزراعيا وتشيع فيه القوانين الدستورية العادلة يعني أن يزدهر الواقع وتنبت في عقل الانسان الثقافة والتحضر، يحاول دائما أن ينظر الى المستقبل واللحاق بركب العلم والتكنولوجيا وهذا ما انتبهت اليه المؤسسات الدينية فوقفت بوجه كل حداثة وعملت على أن يكون الاقتصاد ريعيا وتخريب التعليم وتعطيل الصناعة وتدمير الزراعة وجعل الأراضي بورا وتجميد المؤسسات الثقافية والقانونية والدستورية وتكبيل المجتمع بالقوانين المتخلفة المستلة من مستنقع الماضي بعد الباسها الحجج والفتاوي الباطلة وتضخيم دور المنابر الدينية بما تبثه من سموم وعلى مدار الساعة يوميا لتصم الآذان عن كل صوت علمي وافراغ العقل من كل ما علق به من نظريات وكشوف علمية نفذت اليه من المدارس والجامعات ليصبح المجتمع في النهاية قطيعا يقوده المتخلفون المتحجرون وأدعياء الدين يوجهونه أنى شاءوا للموت والعدم.
لقد قال ماركس يوما أن ( الخرافة والوهم تُنتجان حين يستخدم الانسان عقله بطريقة لا عقلية ) وهذا يعني عند السلفيين أعداء الحياة أن يرجع الانسان الى فطرته وشعوره الوجداني والعاطفي والغاء العقل مما يؤدي الى أن يفقد الكثير من صفاته الانسانية، انسان بلا ضل ولا وجود إن غاب أو حضر لا يُذكر، غياب منطق العلم وجوهر العقل سيؤدي الى اشاعة ظواهر التخلف والانحطاط من عشائرية وقبلية مقيتة وتدهور في التعليم وانهيار القطاع الصحي وقصور حاد في الخدمات وكأن الانسان يعيش في العصر الحجري وشيوع أفكار بالية في العقول وتتعاظم الجرائم المخزية التي يندى لها جبين البشرية، كل هذه الفظائع وأكثر وهذا الخراب الفادح يقف أمامه الرجعيون وهم يرفعون شارة النصر قد اطمأنوا أن هذا القطيع مطيع يستعرضونه في مناسباتهم الدينية وباشارة منهم يحرق الحياة بحاضرها ومستقبلها. النضال في المجتمعات الاسلامية صعب ومرير لأن المؤسسات الدينية سلحت نفسها بالأموال والجهاديين الذين ينقضون على العدو موتا في رمشة عين، كما أن مؤسسات الدولة تتشكل وفق أهوائهم ورغباتهم ويكونون دولة عميقة داخل هذه الدولة يحركونها كما تُحرك الدمى في سيرك كوميدي. يبقى النظام السياسي الاقتصادي العادل اجتماعيا الذي يتعامل بالعلم ويتخذ العقلانية منطقا للتفكير مع احترام عقائد الناس وطقوسهم وأديانهم هو السبيل الوحيد للوقوف بوجه الأصنام من رجال الدين ومؤسساتهم المشبوهة، والدين الاسلامي منهم براء، والذي سيأخذ بيد المجتمع نحو الحرية والمدنية والمستقبل..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

"دبلوماسية المناخ" ومسؤوليات العراق الدولية

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram