طالب عبد العزيز
في “ثلاثية نيويورك”- رواية سيرل بورتر ، يقول كوين لمان ستيل: هل العالمُ على كتفيك؟ فيجيب: -نعم. بمعنى من المعاني، العالم أو ما بقي منه! ثم يردف مستفهماً:”لم أدرك أنَّ الامر بهذا السوء فيجيب: إنّه بهذا السوء، وربما أكثر من ذلك ! يقول كوين : آه. لقد تحوَّلَ العالم الى شظايا، ويهمني أن أعيده الى ما كان عليه. فيقول: لم نفقد شعورنا بالهدف، واِنّما فقدنا اللغة التي يمكننا الحديث عنه”. بغض النظر عن القيمة الفنية التي تنطوي عليها الاعمال الروائية الكبيرة، إلّا أنَّها تمنحنا الطاقة لفهم العالم، والبحث عن الأجوبة الشافية للأسئلة الكبرى، ألم تكن أعمال ديستوفسكي وسواه مُرشدةً للطب النفسي ؟
ثمة روايات لا يكفي أنْ نقرأها المرة والمرتين، لأنها تظلُّ ترفدنا بالاسئلة الكبيرة، تُدلّنا على ما لم نفكر به يوما، وفي الثلاثية العظيمة سؤال عبقري مفاده : “ماذا يحدثُ عندما يكفُّ الشيءُ عن أداء وظيفته؟ أهو ما يزال الشيء، أم أنَّه غدا شيئاً آخرَ؟” الانسان شيءٌ كباقي ما يحيطنا من الأشياء، ترى، ما الذي يبقى منه بعد إنْ فقد أن يكون انساناً؟ وبمعنى ما فقد وظيفته الأنسانية، ما اسم الشيء الذي يبقى منه، بعد أنْ جرّد نفسه من وظيفته؟ ويثير بورتر السؤال الأقرب بقوله: “عندما تُنتزعُ القماشةُ من المظلة؛ هل تظل مظلةً؟ إنك تفتح القوائم المعدنية؛ وترفعها فوق رأسك، وتمضي في المطر، وتبتل، حدَّ النخاع” بعد تحطم المظلة ستكون الوظيفة قد كفّت عن أن تكون مظلةً، غير أنَّ الكلمة بقيت على حالها!
ما نعاني منه كبشر اليوم هو انحراف الوظائف مع بقاء الكلمات. الكلمات التي لم تعد تدلُّ على وظائفها بيننا. هذه الخسارات الحقيقية التي يجب الوقوف عليها، لا خسارات المال. وأجدُ أنَّ العرب وقفوا على مفردة هي غاية في النبل والشرف ألا وهي المروءة، هذه المفردة أجمل العربُ فيها كلَّ صفات الانسان الحقة، وعابوا عليه أن يحيد عنها. أقرأُ عند الجاحظ شيئاً ذا صلة بهذه وتلك فهو يقول: دخل أحدُهم على عبد الملك بن مروان فسأله: “ما المروءة؟ فأجابه: المروءةُ تركُ اللذة”. وهذه إجابة جامعة، تقي المرءَ من عثرات كثيرة، وتحجبُ عنه الطمعَ والجشع والاستحواذ وكلَّ فعل غير انساني. وعجبتُ من قول عمر بن الخطاب:” من المروءة اتقانُ العربية” لكنني، فوجئت بتقلب المفردة في أقوال العرب، وجعلها في المرتبة العليّة من سلوكهم، بل، وتقديمها على سائر أقوالهم في الشرف، فهي عندهم: خلقٌ جليلٌ، وأدبٌ رفيعٌ، يتميز بها الإنسان، عن غيره، من المخلوقات، وخَلَّةٌ كريمةٌ، وخَصْلَةٌ شريفة.. ذلك لأنها مشتقةٌ من الانسان، عند الماوردي: “هي اشتقاق مِن الإنسانِ، فكأنَّها مأخوذةٌ من الإنسانيَّةِ”، والأجمل من ذلك أنَّها “مشتقَّةٌ من المَريءِ، وهو ما يستمرئه الانسانُ من الطَّعامِ.
قلتُ لأحدهم مرةً، وهو في يشارف على السبعين، لكنه كان يتصابى كثيراً: “علينا أنْ لا نأخذ حصةَ أولادنا وأحفادنا” إذْ من المروءة أنْ يستمتعَ الابُ بشباب ابنه أو حفيده، وهو يختال فرحاً بثيابه، وبتسريحة شعره، وبالحبيبة الأولى في حياته، بل وينظر بعين الزهد والفرح الى ما يبهج الآخرين من حوله، فقد نال منها الكثير، وآن له أن يبذل ما بين يديه الى من يشاركهم معاني الحياة، إذْ من المروءة أيضاً ألّا تفقد مفردات لغتنا معانيها، ومنها أيضاً قيامنا بترميم ما تصدع من قلوب الذين من حولنا، الذين فقدوا أحبتهم، وأموالهم، ومراكزهم، ذلك لأن الإبقاء على المعاني النبيلة هذه هو إكرام للمفردات؛ التي نريد لها أنْ تظلَّ وفيةً لوظيفتها الى الابد، ودائرة في فلكها، فهي التي تمنح الانسان معنى وجوده.
الخسارة الكبيرة تكمن في فقدان الأشياء غرضها الذي وجدت من أجله، يفقد الهواءُ في أنْ يكون هواءً إنْ أفسدَ بالتبغ أو بالكلمات الشائنة، كذلك يكون حالُ كلٍّ كلمة.










