محمد علي الحيدري
تُعدّ الثقافة السياسية أحد أعمدة البناء الديمقراطي، فهي البنية المعرفية والسلوكية التي تحدد فهم الأفراد والجماعات للسلطة، وللعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وللحقوق والواجبات السياسية. وبينما يمكن تعديل القوانين والنظم الإدارية بسرعة نسبية، فإن تحوّل الثقافة السياسية عملية طويلة الأمد، تتطلب تراكم خبرات تعليمية واجتماعية وسياسية، لأنها تمس أنماط التفكير والممارسات اليومية والخيال السياسي الجمعي.
في الحالة العراقية، تكوّنت الثقافة السياسية عبر تراكم تاريخي من التجارب السلطوية والاستبدادية، التي أسست نموذجًا قائمًا على الطاعة المطلقة، والانتماء الشخصي للزعيم، والتوجس من الآخر. هذه الثقافة السياسية السلطوية لم تُبنَ على مؤسسات، بل على الهياكل غير الرسمية للنفوذ والبطش، فارتبطت السلطة بالنجاة الفردية، والمشروع السياسي بالصفقات، لا بالمبادئ.
كما أن الحروب الطويلة، والعقوبات الاقتصادية، والتدخلات الخارجية المتكررة، أنتجت عقلًا سياسيًا مأزومًا، يتسم إما بالانغلاق على الذات أو بالشك المستمر أو بذاكرة جماعية محكومة بالخوف من السلطة. وهذا المأزق النفسي والسياسي يفسر جزئيًا هشاشة التجربة الديمقراطية العراقية بعد عام 2003، رغم التحول القانوني إلى نموذج تعددي. فالنخب السياسية الجديدة كثيرًا ما حملت في مفاهيمها أدوات السلطة القديمة، واستُخدمت الديمقراطية كأداة احتكار النفوذ بدلًا من أن تكون إطارًا لمساءلة السلطة وتحقيق العدالة السياسية والاجتماعية.
الثقافة السياسية الناضجة، وفق الدراسات الحديثة في العلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي، تتطلب ثلاثة عناصر رئيسية: أولاً، إدراك المواطن أن الحقوق السياسية ليست امتيازًا من الدولة بل حقًا أصيلًا؛ ثانيًا، فهم السياسيين أن السلطة تكليف ومسؤولية وليست مصدرًا للغنيمة؛ ثالثًا، بناء علاقة عقلانية بين الحاكم والمحكوم تقوم على الشفافية والمساءلة واحترام القانون. كما تتطلب هذه الثقافة تجاوز الولاءات الضيقة—الطائفية، والعشائرية، والمناطقية—لتفضيل الولاء للدستور والقانون والمؤسسات، أي ولاء للسياسة كفضاء عام جامع.
تحقيق هذا التحول الثقافي لا يمكن أن يتم بالخطابات الرسمية وحدها، بل عبر إصلاحات شاملة في منظومات التعليم والإعلام والدين والفنون. المدرسة التي تكرّس الطاعة العمياء لا تُخرج مواطنًا حرًا قادرًا على ممارسة حقوقه بوعي؛ والإعلام الذي يمجّد الزعيم ويصنع هالة أسطورية حوله لا يكوّن وعيًا نقديًا؛ والخطاب الديني الذي يغلق الجماعة ويشيطن المختلف يقوّض أسس الحوار الديمقراطي.
إذن، الطريق إلى تأسيس جيل من المواطنين السياسيين في العراق يتطلب تفاعلًا متواصلاً بين الثقافة والممارسة والتعليم والتمثيل السياسي. الجيل الجديد يجب أن يكون قادرًا على المراقبة والمساءلة والمشاركة، والنخبة السياسية مطالبة بالانتقال من نموذج “السيطرة على الموارد والمواقع” إلى نموذج “الدولة كفضاء للمصلحة العامة”.
الثقافة السياسية ليست رفاهًا فكريًا، بل شرط وجود الديمقراطية. وعندما يعي العراقيون الدولة كمصلحة عامة، ويُدرك السياسيون السلطة كأمانة، ويُنظر إلى الاختلاف كثراء فكري وسياسي، يكون المجتمع قد قطع خطواته الأولى نحو استقرار حقيقي، لا تحرسه البنادق، بل المعرفة والوعي السياسي.










