TOP

جريدة المدى > عام > عندما يكون التصميم درساً في الوعي البصري

عندما يكون التصميم درساً في الوعي البصري

نشر في: 20 أكتوبر, 2025: 12:03 ص

عبد الكريـم سعدون
ظهرت الحاجة الى التصميم الكرافيكي نتيجة زيادة الإنتاج وتطوره في حقول متعددة، وقد أدرك الفنانون والباحثون المتخصصون في هذا المجال، مقدار الأهمية التي تنطوي عليها العلاقة بين الإنتاج في حقوله المتعددة والمختلفة، إذ يوجد متلقون خاصون به في كل منها، وبما أن عملية انجاز التصميم يوّلد نصوصا بصرية مؤثرة شأنها شأن المنجزات الفنية الأخرى، مثل الرسم فأنها تخضع الى دراسات منهجية وتمتلك قواعدها الخاصة بها، وأدواتها التي قد تفترق فيها عن بعض أدوات الفنون الأخرى، في الوقت الذي تشترك مع بعضها الآخر. والتصميم لأنه حاجة ملحة توصل لها الإنسان في بحثه المتواصل عن كل ما يهيئ له سبل الحياة المنظمة وييسر له معيشهُ اليومي، والضرورة التي يقتضيها إبتكاره هذا النوع من الفن، ولدت معه في اللحظات الأولى التي إستقر فيها وشكل تجمعاته السكانية الأولى مما أتاح له تنظيم المكان، فضلاً عن الحقل الذي جرت عليه ولأجله عملية التصميم الأولى. إن ما يفهم من ذلك هو وجود شخص واحد أو أشخاص إشتركوا في الأمر ولديهم ملكة خاصة في هذا الإتجاه، لا يمتلكها غيرهم. إأن الملكة تلك هي بالتأكيد إمتلاكهم مخيالاً مميزاً.
الحديث عن التصميم الكرافيكي أعادني الى سنين مضت، كنا فيها أنا وصديقي الفنان والباحث الأكاديمي د. فلاح حسن الخطاط، الذي فاجأني بأن أكتب مقدمة هذا الكتاب، وهذا لعمري كرم كبير منه شرفني به، كنا نشترك في إنجاز تصاميم في حقول الإنتاج المختلفة، وجهدنا في أن تكون لنا وجهة خاصة بنا، أو ما يمكن ان نطلق عليه، اجتراح أسلوب إبتكرناه في عملنا، وحرصنا على أن نكون مغايرين لما موجود في نتاجات التصميم الكرافيكي، وهو أمر تركناه لتقويم الآخر المتلقي والباحث المتابع، إذ لم نترك مجالاً إلا وكان لنا فيه حضور، فعملنا على إنجاز التصاميم الأولية لصحف ومجلات عديدة، وكذلك صممنا الكثير من أغلفة الكتب التي صدرت في العاصمة بغداد، وقد عملنا الكثير من تصاميم الماركات والعلامات التجارية التي أُشير لها بالحضور المؤثر، والقول إننا أردنا إجتراح أسلوب خاصاً بنا ممكن لأسباب عديدة منها أننا كنا نفتقد لقاعدة قبْليِة تتيح لنا الاطلاع على منجزات الجرافيك الحديثة غير التي تعج بها السوق وتصادفنا في معيشنا اليومي، إلا نادراً والندرة لها أسبابها أيضاً، فقد إمتلكنا رؤيتنا للعمل في الوقت الذي رحل بعض الفنانين المؤثرين الى خارج العراق، وكان الإتصال بالعالم الخارجي يكاد يكون منقطعا كلياً، مما حرمنا من التواصل مع ما تنشره المطبوعات المتخصصة بهذا المجال، وهذا الأمر في الأوقات الطبيعية يسبب نقصاً حاداً في المرجعيات المعرفية والبصرية المهمة، وبالرغم من ذلك فقد إجتهدنا، وكان إجتهادنا الأول في توصلنا الى حقيقة أن مجال التصميم والعمل فيه يحتاج أولاً الى فريق منسجم مع بعضه، ويمتلك حساً جمالياً ومعرفة بصرية تؤهل المجموعة لتقاسم العمل، ولهم القدرة على تطويره، وهو ما أطلق عليه بمطبخ التصميم، وهكذا أسسنا مطبخنا وأسميناه (كف) مؤمنين بقيمة اليد ومالها من قدرة على ولادة التصميم من حركة أصابعها، ولم نعرف بعد برامج معالجة الصور أو تنفيذ التصاميم والخطوط وغيرها، فاليد هي التي تسير وتتحكم بحركة الأدوات وترسم لها خطواتها، عملنا نحن الأثنان فريق عمل نكمل بعضنا في إنضاج الفكرة والبدء منها، فنضع الفكرة في قالب فني جديد لخلق تأثير آني يسمح للمتلقي أن يأخذ من النظرة الأولى فكرة التصميم كاملة. إذ كنا نقترح فكرة واحدة أو أكثر ونختار منها بعد تقليبها لأكثر من نقاش، ونقترح التغيير انتهاءً بالتنفيذ وتقديم التصميم كاملاً وقابلاً للمعاينة والشروع بطباعته وإستخدام و(الفن يخلق شكلاً والشكل لابد من أن يكون معبراً ) والتعبير فيه هو الهدف الذي ننشده، لأن التصميم الناجح كما فهمناه هو في قدرته على الإتيان بالمتلقي الخاص ليقنعه بأن ذلك المنتج هو هدفه الذي يريده من ويحتاجه دون غيره.
فلم يعد التصميم في وقتنا ذاك مجرد مهنة، وإنما تم تشييد طريق يتميز فيه الفنان عن صاحب المهنة بطريقة نظرته الى الأشياء وفي استلهام الكيفية التي يكون فيها التصميم مؤثرا وجاذبا ويولد ناجحاً.
إن طبيعة ذلك الإجتهاد لم تأتِ من فراغ فقد كانت لدينا خبرات في هذا المجال رسختها أيام طويلة، وفي عمر مبكر في العمل في المجال الصحفي كمصممين ورسامين وخطاطين، إذ أن كل واحد منا كان لديه ما يعزز الرغبة في أن يكون نصيبنا في هذا المجال متميزاً طالما كان عندنا حلم يحيا في دواخلنا. إن الحاجة التي نمت في فكر فلاح للعمل في الصحافة كانت ارثاً تسلمه من أسرته فوالده المرحوم حسن العتابي كان رساماً وكاتباً صحفياً مثقفاً، ولم أنس الى هذا الوقت مجموعة من لوحاته التي رسمها قبل ما يقارب الستين عاماً، والتي كانت تزين جدران داره العامرة، فضلاً عن أشقائه الفنانين والصحفيين، فتنقل في أروقة المؤسسات الصحفية الكبيرة ووضع لمساته فيها مجتهداً ومثابراً، فهو يملك تجربة عملية تسندها ثقافته البصرية التي أستمدها بالأساس مما رآه في نتاجات أسرته المعروفة في التصميم والإخراج الصحفي، إذ كانت السبعينيات من القرن الماضي وقتاً ذهبياً للتنافس في هذا الميدان بين الصحف المعروفة وقتها، ويمكن أن نقول انه كان صراعاً جمالياً غلفه طابع سياسي للتنافس على كسب جمهور واسع، وقد أجزم أن ذلك أصبح وقتها هدف فلاح في أن تكون أعمال أشقائه في التصميم الكرافيكي والخط العربي منارته التي يهتدي إليها.
عندما التقينا في الوسط الصحفي، كان فلاح فضلاً عن عمله، طالباً في كلية الفنون الجميلة متخصصاً بالتصميم، وكنت أنا رساماً ومصمماً في بعض المؤسسات الصحفية، فلكل منا سنوات من التجربة العملية. كان التصميم الكرافيكي والإخراج وقت عملنا في مجاله عملاً يدوياً بالكامل، وهذا يعني أن المصمم يرسم تخطيطاً ملوناً ليحظى بالموافقة المطلوبة، إذ إن عملية تنفيذ التصميم تبدأ برسم ماكيتات أولية على الورق أي وضع الفكرة موضع التنفيذ، والبدء بخطوات بناء الشكل المراد اظهاره، والتصميم كما هو، عملية إظهار الشكل المراد منه التدليل على فكرته التي ترمي الى التأثير وجذب متلقٍ معين عبر العلامات التي تتشكل منها بنية التصميم، إن هذه الخطوات من البداية الى النهاية هي إنجاز تنفيذ التصميم المراد، تتم بالأبيض والأسود وبنية الشكل الملونة تجري في مخيال الفنان المصمم تحديداً ونتيجة الخبرات المتراكمة فهو مهيأ لمعرفة نتائج عمله قبل طباعته، فاللون وتدرجاته وعملية المزج تجري في المخيلة ووحده المصمم من يضع تفاصيلها ونسبها والمسؤول عن الكيفية التي يظهر بها، ولنتخيل الطريقة التي تجري فيها عملية التصميم فهي عملية معقدة ومركبة.
إن تلك الآلية التي عملنا وفقها وتعلمناها وتدربنا عليها في مراحلها كلها تقريباً، قد صقلت تجربتنا لنخوض غمار العملية كلها باندفاع، علماً أن في هذا المجال كان هناك المصمم والرسام والخطاط ومنفذ التصميم، فالمصمم هو فقط من يضع تصوره على الورق وعلى الآخرين تنفيذ إقتراحاته للشكل النهائي، ولكننا كنا نفكر ونصمم وننفذ أعمالنا لتظهر بالكيفية التي نريد.
الأمر هذا رسخ عندنا شعوراً بالحرص الشديد والإبتعاد عن العشوائية في العمل، وأقصد بها عدم الإرتهان للسهولة التي لا تغني في إشباع الحاجة لأن يكون التصميم درساً في الوعي البصري السليم، فقد كان الهدف هو المساهمة مع البعض الآخر من المصممين في تغير الآلية التي لا تكترث لخلق التقاليد الجديدة أو المساهمة فيها وجعل التصميم عملية جمالية فضلاً عن أنها مؤثرة وليس باباً للإرتزاق فقط. ففي الفن والإنجاز الفني قد لا يكترث الفنان لموضوع التدليل في منجزه والكثير من الفنانين قد لا يأخذ بنظره أن يكون للعمل الفني دلالة معينة غير دلالته الجمالية، وفي هذا يفترق عن التصميم، لأن المصمم ملزم بأن يضع الفكرة في الموضع الرئيس ولها الأولوية في عمله وبالأساس أنه يعمل من أجل أن تكون الفكرة واضحة والعلامة الرئيسة تدلل بطريقة واضحة عما يريده من الشكل وتستطيع أن تجذب المتلقي الخاص بها وتؤثر به، لذلك لا يمكن أن نغض الطرف في مجال التصميم عن السؤال الملح وهو: ماذا يعني هذا؟
إن هذا الكتاب الذي سيكون باكورة إنجازاته في ميدان الكتاب المطبوع والذي أتمنى أن يكون الأول الذي ستلحقه كتب أخرى في التنظير لهذا النوع الفني الذي يحتل مكانته المميزة في عالم اليوم، فقد إستمتعت بقراءته لما فيه من قاعدة نظرية تهم القارئ والمتخصص وتقدم له مادة غنية في شرح معنى أن يتحول الشكل المجرد الى شكل موحي ومؤثر ويقود متلقيه الى هدفه المباشر من دون تعقيد، ووقعت فيه الى الفهم العميق لآلية إنجاز التصميم، إن الحقيقة التي أسعدني الإطلاع عليها في هذا الكتاب هي بحثه في أبعاد التصميم والحركة المفترضة في بنية الشكل الكلية واختيار النماذج التي بنى عليها دراسته كعينات من تصاميم مصممين لهم حضورهم الواضح في هذا المجال، إذ ان آلية التصميم تشتغل على فضاء المساحة التي يجري عليها والذي ستصبح فيما بعد فضاءً حاوياً، وأن (الفضاء هو مادة الأفكار وهو الظرف الملائم لنمو الزمن والحركة، فالأفكار زمان وحركة صرف)، فقد كان البحث فيها موفقاً، لان عملية تلقي التصميم تدعو المتلقي بعد النظرة الأولى، للتمعن فيه وملاحقة العلامات التي تحتوي عليها بنية الشكل التصميمي وصولاً للحظة الكشف والتفاعل، وهذه عملية تجري في الزمن، والزمن يولد في اللحظة التي يكتمل فيها بناء الشكل واستقراره وهو من يحدد مدى نجاح الشكل المصمم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram