TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > فلسطين في الأمم المتحدة: ماذا بعد؟

فلسطين في الأمم المتحدة: ماذا بعد؟

نشر في: 21 أكتوبر, 2025: 12:01 ص

بابلو لوشابلييه

ترجمة : عدوية الهلالي

إنّ سلسلة الأحداث التي انطلقت مع موجة الاعترافات الدبلوماسية الأخيرة، وإعلان خطة أمريكية من عشرين نقطة بشأن غزة، قد نقلت القضية الفلسطينية من إطارها الرمزي إلى ديناميكية عملية أكثر، شريطة أن تصاحبها آليات تنفيذ ملموسة. إن اعتراف أغلبية كبيرة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بفلسطين يمنحها هوية سياسية لا يمكن تهميشها بعد الآن على هامش النظام الدولي. في الوقت نفسه، اتخذت فرنسا أيضًا خطوة الاعتراف، ساعيةً إلى ترسيخها ضمن استراتيجية أوسع تهدف إلى «تكريس» حل الدولتين. ويُعيد هذا الزخم تشكيل التحالفات الدبلوماسية ويفتح هوامش المبادرة لأوروبا. ومع ذلك، يبقى هذا الزخم، بمفرده، غير كافٍ لتحقيق سيادة فعلية. لذا، يكمن التحدي الأساسي في تحويل إشارة سياسية قوية إلى نتائج ملموسة، على الرغم من المعارضة الإسرائيلية على أرض الواقع، والدور المعيق للولايات المتحدة في مجلس الأمن، والتشرذم المؤسسي للنظام السياسي الفلسطيني. في هذا السياق، تُطرح أسئلة عديدة: هل هذه مجرد لفتة رمزية، أم أنها تُمثل نقطة انطلاق لديناميكية لا رجعة فيها؟ كيف يُعيد هذا القرار تشكيل التوازن بين إسرائيل والدول العربية وأوروبا والولايات المتحدة؟ والأهم من ذلك، ما هي الآفاق الملموسة التي يفتحها لشعبٍ ظل حقه في تقرير المصير مُقيدًا لأكثر من خمسة وسبعين عامًا؟
إذا كان الاعتراف قد جاء «متأخرًا»، فذلك لأنه تم تحقيقه بفضل تضافر عوامل نادرة لم تكن في الحسبان. أولًا وقبل كل شيء، الحاجة الإنسانية المُلحة: فبعد قرابة عامين من الحرب وأكثر من 52 ألف قتيل في غزة، وفقًا لأرقام الأمم المتحدة، خلق الوضع ضرورة أخلاقية وسياسية لم يعد من الممكن تجاهلها. كما ألقى ضغط المجتمع المدني - من المنظمات غير الحكومية والمحامين والنقابات العمالية - بثقله على الحكومات الأوروبية. في فرنسا، وأجبرت الرسالة المفتوحة التي وقّعها 400 صحفي مطالبين باستئناف عمليات الإجلاء، والدعاوى القضائية التي رفعتها منظمة «من أجل العدالة في الشرق الأوسط» غير الحكومية أمام المحكمة الجنائية الدولية، والتعبئة النقابية في حزيران 2025 في باريس السلطة التنفيذية على التحرك. وأُعلن عن هذا القرار في سياق دبلوماسي مشحون بشكل فريد في الدورة الثمانون للجمعية العامة للأمم المتحدة، التي نظمتها فرنسا والمملكة العربية السعودية، والتي أعلن خلالها إيمانويل ماكرون: «حان وقت السلام، فنحن على بُعد لحظات من فقدان قبضتنا عليه». مع اشتراط فتح سفارة فلسطينية في باريس ووقف إطلاق النار والإفراج عن الرهائن، سعى الرئيس الفرنسي إلى «ترسيخ» حل الدولتين دون أن يظهر عداءً صريحًا لإسرائيل. ويُمثل هذا الموقف - الذي يوازن بين الحزم القانوني والحذر السياسي - نقطة تحول تاريخية في الدبلوماسية الفرنسية. ويُعد اعتراف فرنسا جزءًا من سلسلة دبلوماسية طويلة، تتأرجح بين التضامن مع إسرائيل، والالتزام بالقانون الدولي، وضبط النفس السياسي. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، تناوبت باريس بين الإيماءات الرمزية والحكمة: افتتاح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية عام 1975، واجتماع ميتران-عرفات عام 1989، ودعم فرنسا لانضمام فلسطين إلى اليونسكو (2011) وحصولها على وضع مراقب في الأمم المتحدة (2012). وفي عهد إيمانويل ماكرون، تطور موقف فرنسا تدريجيًا. في البداية، كان ماكرون قريبًا من بنيامين نتنياهو ومعجبًا بـ «روح المبادرة» لدى إسرائيل، إلا أنه أظهر مشاركة محدودة في القضية الفلسطينية. ومع ذلك، ومع تفاقم حرب غزة والأزمة الإنسانية، تغير موقفه. وبعد زيارته إلى نقطة إنسانية في سيناء، ورسالة من محمود عباس، وتزايد الضغط الشعبي، قام في النهاية بإضفاء الطابع الرسمي على اعتراف فرنسا - سعياً إلى التوفيق بين المبادئ القانونية وواقع الصراع.
ويظل محور واشنطن - تل أبيب هو المحرك الرئيسي لمعايير العمل. وقد جسّدت أحداث الأمم المتحدة في أيلول 2025 هذا التباين بوضوح: فمن جهة، عواصم أوروبية راغبة في ترجمة استنفاد عملية السلام التقليدية إلى أفعال؛ ومن جهة أخرى، تحالف أمريكي إسرائيلي متجذر في منطق أمني ومبدأ ما يُسمى “الاستجابات الوقائية”. ففي 22أيلول 2025، نشرت صحيفة واشنطن بوست عنوانًا رئيسيًا على صفحتها الأولى: “فرنسا تتحدى ترامب”. وفي اليوم التالي، اعتلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو منصة الأمم المتحدة، رافعا خريطة “إسرائيل الكبرى” خلال خطابه، ومتهمًا باريس بـ”بناء دولة فلسطينية على دماء ضحايا 7تشرين الأول”. بل إن سفير إسرائيل لدى فرنسا، جوشوا زاركا، وصف إيمانويل ماكرون بأنه “عامل زعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط”. ورفضت الولايات المتحدة منح تأشيرة لمحمود عباس لحضور الجلسة العامة للجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 ايلول، قبل الكشف عن “خطتها لغزة” - التي قدمها دونالد ترامب في 29 ايلول. هذه الخطة المكونة من عشرين نقطة، والتي تهدف ظاهريًا إلى إعادة الإعمار ووقف إطلاق النار تحت إشراف تحالف عربي غربي، كان يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها رد مباشر على اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين. ومع ذلك، تظل الخطة غير متكافئة إلى حد كبير، حيث تفرض شروطًا قاسية على السكان الفلسطينيين بينما تتجاهل القضية الأساسية المتمثلة في السيادة الفلسطينية.
على مستوى القانون الدولي، تواصل واشنطن التذرع بالحق في الدفاع عن النفس لتبرير دعمها العسكري لإسرائيل. ومع ذلك، أكدت محكمة العدل الدولية مرارًا وتكرارًا أن الدفاع الوقائي عن النفس، في حالة عدم وجود تهديد وشيك، ليس له أساس قانوني، وأن العقاب الجماعي محظور صراحةً بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1948.وهكذا، وبينما تُقرّ الولايات المتحدة فعليًا إفلات إسرائيل من العقاب، تجد الدولة العبرية نفسها أكثر عزلة من أي وقت مضى. إذ تتدهور علاقاتها التجارية مع أوروبا، وقد فرضت العديد من السفارات الأوروبية - ولا سيما سفارات المملكة المتحدة وإسبانيا والنرويج - عقوبات فردية على وزراء مثل إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.
من منظور أكثر واقعية، أكدت الأشهر الأخيرة مركزية التوسع الاستيطاني كأداة للسيطرة الإقليمية.ويُجسّد مشروع E19، المُعتمد في 2 آب 2025، هذه الاستراتيجية: فهو يشمل مساحة شاسعة تُقارب 12,000 هكتار تقع بين القدس الشرقية ورام الله وبيت لحم، مُصمّمة لربط القدس بمستوطنات الضفة الغربية عبر ممرّ من البنية التحتية والإسكان. هذا المشروع - الذي أدانته 21 دولة في 20 آب 2025 (بما في ذلك فرنسا وكندا والمملكة المتحدة وأستراليا) - من شأنه أن يُحدث انقطاعًا إقليميًا كبيرًا بين شمال الضفة الغربية وجنوبها. وتُجسّد عمليات طرد العائلات البدوية من عطا الله الجهالين، وهدم المنازل، ومصادرة الأراضي في القدس الشرقية ما يُطلق عليه عالم السياسة الإسرائيلي أورين يفتاحيل “الحكم بالاستثناء”، وهو نظام يعتمد فيه تطبيق القانون على الهوية والانتماء العرقي. وهذه السياسة لا تنتهك ميثاق الأمم المتحدة وقراري مجلس الأمن 24210 و33811 فحسب، بل تنتهك أيضًا اتفاقية جنيف التي تحظر ضم الأراضي ونقل السكان المدنيين. وقد قضت محكمة العدل الدولية بالفعل بعدم قانونية بناء جدار الفصل العنصري، الذي شُيّد عام2013ووصفت النظام المفروض على الفلسطينيين بأنه نظام “فصل عنصري”. وبينما تواصل السفارات الغربية التذرع بحل الدولتين، تسعى إسرائيل إلى إعادة تشكيل إقليمي لا رجعة فيه. لذا، فإن الاعتراف بفلسطين يكتسب قيمة فعل مقاومة قانوني - ووسيلة لإعادة التأكيد على أن القانون الدولي لا يزال الضمانة الوحيدة ضد منطق الأمر الواقع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

"دبلوماسية المناخ" ومسؤوليات العراق الدولية

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram