د. طلال ناظم الزهيري
في بلدان كثيرة، تشكل كرة القدم مساحة للفرح والمتعة والتنافس الشريف، لكنها في العراق تحولت إلى مرآةٍ للواقع الوطني بكل ما فيه من توتر وانقسام واحتقان. لقد أصبحت اللعبة التي يفترض أن تجمع، ساحةً لتفريغ الإحباط السياسي والاجتماعي، حتى بدا أن فشل المنتخب في التأهل إلى كأس العالم ليس إخفاقًا رياضيًا فحسب، بل صدمة وطنية تهز الشعور الجمعي، وكأن مصير الدولة معلق على قدم لاعب.
حين تعجز الأمم عن تحقيق التقدم العلمي أو الصناعي أو الاقتصادي، غالبًا ما تبحث عن رموز بديلة تبعث الأمل في النفوس، فيُعلّق الناس آمالهم على الانتصارات الرياضية بوصفها تعويضًا نفسيًا عن غياب الإنجازات الواقعية. لكن هذه الرموز سرعان ما تتحول إلى عبءٍ جماعي حين يُربط فوز المنتخب بـ«كرامة الوطن»، كما لو أن الهوية الوطنية تنتظر هدفًا في مرمى الخصم لتثبت وجودها. في العراق، بلغ هذا الارتباط ذروته عندما تغنى المطرب العراقي “إن تكن لعبةً لهم، فإنها لنا قتال”. وهي عبارة تلخص ببلاغة مأساوية كيف انقلبت المعاني؛ من الرياضة بوصفها ساحة للسلام والتقارب، إلى ساحة رمزية للصراع والقتال.
اللافت أن هذه الظاهرة ليست حكرًا على العراق وحده، فحتى في دول تمتلك تقاليد رياضية عريقة نجد حالات مشابهة، لكن مع اختلافٍ في طريقة التعامل. في البرازيل مثلًا، بعد خسارة منتخبها أمام ألمانيا بنتيجة 7-1 في مونديال 2014، شعر الناس أن كرامتهم الوطنية أُهينت، لكن الدولة والمجتمع لم يحولا الهزيمة إلى مأساة وطنية، بل تعاملوا معها كدرسٍ إداري ونفسي وفني، فأعادوا بناء الفريق بروحٍ جديدة. أما في الأرجنتين، فقد تحوّل الضغط الشعبي والإعلامي على النجم ليونيل ميسي إلى عبءٍ نفسي جعله يعلن اعتزاله مؤقتًا في 2016، قبل أن يعود لاحقًا ويقود بلاده إلى كأس العالم 2022 بعد أن نجح المدرب في خلق بيئة صحية ترفع عنه عبء التقديس والاتهام.
في العراق، المشكلة أعمق من مجرد هزيمة أو فشل في التأهل؛ إنها مشكلة منظومة ذهنية تجعل من اللاعب كائنًا محاصرًا بين التمجيد والاتهام، يخاف الخطأ أكثر مما يطمح إلى النجاح. فالإعلام الرياضي، الذي يفترض أن يكون جسر دعمٍ ومتابعة مهنية، تحول في كثير من الأحيان إلى ساحة تصفية حسابات أو استعراضٍ للنفوذ، حيث تُستهلك البرامج في جدلٍ حول رئاسة الاتحاد، بدل البحث في تطوير الأداء. اللاعب يدخل المباراة مثقلًا بضجيج الإعلام وتناقض الآراء، يسمع صوته في الأستوديوهات أكثر مما يسمع صوت مدربه في الملعب، فيفقد تركيزه ويتراجع عطاؤه. إننا أمام مشهدٍ مألوف: لاعب عراقي يبدع في أنديته الخارجية لأنه يلعب بلا ضغط ولا تهديد، لكنه حين يرتدي قميص المنتخب، يتحول إلى شخصٍ آخر، حذرٍ، خائفٍ، مرتبك. ليس لأنه فقد المهارة، بل لأنه فقد الطمأنينة. الإعلام الذي يُفترض أن يرفع من معنوياته أصبح خصمًا يترصده، والجمهور الذي يحبّه يضعه في موقعٍ لا يُحتمل: “إما أن تفوز فنصفّق لك كمنقذٍ للأمة، أو تخسر فنحاكمك كخائنٍ للوطن».
وهذا المنطق ذاته يتكرر في دول أخرى، وإن بنسب متفاوتة. فمنتخب إنجلترا، رغم قوته، يعاني منذ عقود من الضغط الإعلامي الذي يسبق كل بطولة، حتى كتب أحد الصحفيين البريطانيين “منتخبنا لا يخسر في الملعب فقط، بل يخسر قبل أن يبدأ، حين نغرقه بتوقعاتنا” وفي المقابل، قدّمت السعودية في مونديال 2022 درسًا مغايرًا حين قال ولي العهد للاعبين قبل مواجهة الأرجنتين: «لا نطالبكم بشيء، اذهبوا واستمتعوا بالمباراة». فكانت النتيجة فوزًا تاريخيًا على بطل العالم، لأنهم لعبوا بحرية. لكن ما إن ارتفع سقف التوقعات واشتد الضغط، حتى تراجع الأداء وخسروا المباريات اللاحقة.
الأمثلة كثيرة، والدلالة واحدة: إن الهدوء النفسي للاعبين أهم من أي استعداد بدني أو تكتيكي. ففي عام 2007، حين كان العراق يعيش أقسى ظروفه بعد الحرب، لم يكن أحد ينتظر من المنتخب معجزة، فدخل اللاعبون المباريات بلا رهبة ولا ضغوط، وكانت النتيجة أن رفعوا كأس آسيا في لحظة استثنائية من الصفاء الوطني. من هنا، لا يكفي أن نطالب اللاعبين بالبذل والعطاء، بل يجب أن نؤمّن لهم بيئةً نفسية وإعلامية مستقرة. المطلوب في المرحلة المقبلة أن يتعامل الاتحاد العراقي لكرة القدم بوعيٍ مهني، فيضع إلى جانب المدرب والمحلل البدني اختصاصيًا نفسيًا يعالج القلق والخوف ويعيد بناء الثقة. كما ينبغي ضبط الخطاب الإعلامي ووضع ميثاقٍ شرفٍ للبرامج الرياضية يحد من المبالغة والتهويل، مع تشجيع النقد المهني الهادئ لا الإثارة الشعبوية.
كرة القدم، في جوهرها، ليست ميدانًا لإثبات الوطنية ولا ساحة قتال كما يردد النشيد. إنها مساحة إنسانية للفرح والتنافس والتلاقي. وما لم نفصل بين الرياضة والوطنية، سنظل نخلط بين الانتصار في المباراة والانتصار في الحياة. فالوطن يُبنى في الجامعات والمصانع والمعاهد قبل أن يُرفع علمه في الملاعب، واللاعب الذي نطالبه بالنصر يحتاج أولًا إلى وطنٍ يمنحه الثقة لا الخوف، والطمأنينة لا الشعارات. حينها فقط، يمكن أن تتحول اللعبة إلى إنجازٍ حقيقي، لا إلى قتالٍ رمزي يستهلك طاقة أمة بأكملها.










