بقلم: د. غادة حسين العاملي
يبدو ان الاعلام الرقمي لم يعد خيارا تطوعيا للمؤسسات الاعلامية، بل اصبح قدرا مهنيا وضرورة وجودية.
فالمشهد الاعلامي اليوم يتبدل بسرعة تتجاوز التوقعات، وتتقدم فيه الصورة على الكلمة، والذكاء الاصطناعي على الخبر، والبيئة التفاعلية على الخطاب الاحادي.
في هذا السياق يأتي مقال “الاعلام والتحول الرقمي.. الوصايا العشر” بوصفه صوتا واعيا يدعو الى اعادة التفكير في معنى الاعلام ذاته، لا في وسائله فقط.
الاخراج في قلب التحول
يتناول الكاتب التحول الرقمي من زاوية عملية تضع الاخراج والانتاج الاعلامي في موقع القلب من عملية التطوير.
فالتحول – كما يؤكد – لا يبدأ من شراء الاجهزة او تغيير البرمجيات، بل من تغيير الذهنية الاعلامية، اي من لحظة الوعي بان الكاميرا والمايكروفون والصفحة لم تعد ادوات، بل لغات جديدة للفهم والتأثير.
يقدّم المقال عشر وصايا ارشادية للانتقال من الاعلام التقليدي الى الاعلام الرقمي، من ابرزها:
• اعادة هيكلة غرف الاخبار لتعمل ضمن نظام انتاج رقمي متعدد المنصات.
• تمكين الكفاءات البشرية بالتدريب على ادوات التحليل والاخراج البصري.
• بناء المحتوى انطلاقا من سلوك الجمهور لا من فرضية الوسيلة.
• اعتبار الشكل والمشهد والهوية البصرية جزءا من مضمون الرسالة الاعلامية لا مجرد وعاء لها.
هذه الوصايا تعيد تعريف الاخراج ليصبح عملية تفكير قبل ان يكون عملية تنفيذ.
فالاخراج في الاعلام الرقمي ليس تزيينا للخبر، بل صياغة ادراكية جديدة للواقع عبر التفاعل، والبيانات، والحضور البصري.
بين الفكر والتقنية
ينجح المقال في طرح علاقة متوازنة بين الفكر والتقنية، بين الانسان والآلة.
فهو يرى ان التكنولوجيا ليست نهاية الطريق، بل وسيلة لتمكين الانسان من انتاج معرفة اعمق واكثر انفتاحا.
الاخراج الرقمي في هذا التصور ليس شاشة مضيئة فقط، بل جماليات وعي تتجلى في ترتيب الصورة، وتقطيع الفيديو، وانتقاء الالوان، والايقاع البصري للنصوص والصوتيات.
وهنا تكمن اهميته بالنسبة للمخرجين والمصممين والمحررين الجدد،
اذ يضعهم في قلب الثورة الرقمية بوصفهم صناع معنى بصري، لا مجرد منفذين لتوجيهات التحرير.
فالتحرير اليوم يكتب بالكلمة كما يرسم بالضوء والحركة والايقاع،
وكل قرار اخراجي هو قرار في جوهر الرسالة الاعلامية.
رؤية نقدية
رغم غنى المقال ووضوحه، الا انه يترك مساحة مفتوحة للاسئلة.
فهو يركز على الجانب الاداري والتقني، لكنه لا يتوسع في الابعاد الجمالية والفكرية للاخراج الرقمي،
ولا يتطرق الى تأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي بدأ يعيد صياغة العلاقة بين الانسان والمشهد الاعلامي.
كان يمكن للمقال ان يقدم امثلة تطبيقية من مؤسسات عربية نجحت في الدمج بين التقنية والرؤية الفنية،
او ان يناقش التحديات الاخلاقية في زمن “الانتاج الفوري” للمحتوى.
ومع ذلك، يبقى هذا النص من اهم ما كتب في الاعلام العربي خلال عام 2024،
لانه يعبر عن لحظة وعي نادرة في مشهد يلهث خلف السرعة،
ويعيد ترتيب الاولويات ليضع المعرفة والانسان في مركز التحول الرقمي، لا الخوارزمية وحدها.
التحول الرقمي في الاعلام ليس مجرد تحديث في الادوات، بل اعادة اكتشافٍ للجوهر الانساني للمهنة،
واعادة بناءٍ لعلاقةٍ اكثر وعيا بين الفكرة وصورتها، بين الكلمة ومشهدها.
انه انتقالٌ من الاعلام كصناعة خبر، الى الاعلام كصناعة وعيٍ ومعرفةٍ وجمالٍ،
حيث يصبح الاخراج لغة المستقبل، واداة الانسان لصياغة معنى وجوده في العالم الرقمي الجديد.
المادة مراجعة لمقال “الاعلام والتحول الرقمي.. الوصايا العشر”
بقلم د. أيمن منصور – منشور في صحيفة اليوم السابع بتاريخ أيلول/ 2024.










