TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تَصنعون من الحمقى قادة، ثم تسألون: من أين أتى الخراب؟

تَصنعون من الحمقى قادة، ثم تسألون: من أين أتى الخراب؟

نشر في: 23 أكتوبر, 2025: 12:04 ص

جورج منصور

هذه العبارة ليست لي، بل استعرتها من السياسي والكاتب ورئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل، لتكون عنوانًا لهذا المقال. ما قاله في زمنه البعيد يتطابق إلى حدٍّ كبير مع واقعنا في العراق بعد عام 2003، ذلك الواقع الذي يختزل حكمته في جملة موجعة: «الشعوب لا تُحكم إلا بمن يشبهها».
هذه المقولة تعبّر في جوهرها عن فكرة أن الحاكم هو مرآة عاكسة لبيئته ومجتمعه؛ فالسلطة لا تنبثق من فراغ، بل تنشأ من المنظومة القيمية والثقافية السائدة. وهي تصدق بشكل خاص عندما يكون المجتمع راكدًا، ومتواكلًا، أو متواطئًا مع ضعفه. فالحاكم لا يشبه شعبه فحسب، بل يشبه أيضًا ظروفه التاريخية وثقافته السياسية.
وعندما يُعيد الشعب انتخاب الفاسدين وغير الأكفاء، أو يُسهم في وصول الجاهلين إلى مراكز القيادة، فإن الخلل لا يقتصر على النخبة الحاكمة وحدها، بل يتعدّاها إلى الوعي الجمعي الذي سمح بذلك وشرعنه عبر صناديق الاقتراع.
في كل دورة انتخابية، تتكرر المأساة نفسها: يخرج الناس غاضبين من الفساد، متذمرين من سوء الخدمات، ساخطين على النهب والظلم، ثم يعودون إلى صناديق الاقتراع ليصوّتوا للوجوه ذاتها التي سرقتهم بالأمس. لا تتغير النتيجة، لأن الخلل لم يعد في الحاكم فحسب، بل في وعي المحكوم أيضًا.
إن الشعب الذي يختار الفاسدين، أو يتغاضى عنهم، أو يبرر لهم باسم العشيرة أو المذهب أو المصلحة الشخصية، إنما يوقّع بيده على استمرار الخراب. فالسياسي الفاسد لا يأتي من فراغ، بل يصعد على أكتاف أصواتٍ منقوصة الشرعية، ووعودٍ زائفة اشتراها بثمنٍ بخس من وعيٍ مغيّب أو جوعٍ مزمن.
الانتخابات في جوهرها ليست طقسًا شكليًا، بل امتحان للضمير الجمعي. فإذا تحوّل الصوت الانتخابي إلى سلعةٍ تُباع وتُشترى، أو إلى وسيلةٍ لابتزاز الدولة بالخدمات، نكون قد استبدلنا الفساد الإداري بفسادٍ شعبيٍّ مقنّع، وحينها يصبح الحديث عن الإصلاح ترفًا لغويًا لا أكثر.
الفاسد لا يعيش إلا في بيئة تسمح له بالبقاء، وشعبٌ يرفض محاسبته هو شعبٌ يمنحه الأمان. وحين يُكافأ الفاسد بالصوت الانتخابي، تكون رسالة الشعب واضحة: «افعل ما شئت، سنعيدك مهما سرقت». وهذه هي ذروة التواطؤ بين الجهل والسلطة.
في العراق، حيث تغيب الثقافة السياسية عن عامة الناس، يتحول التصويت من فعلٍ وطنيٍّ مسؤول إلى عملية بيع أو شراء، أو استجابة لعصبيات عشائرية أو طائفية أو مناطقية. عندها يفقد الصوت قيمته كموقفٍ وطنيٍّ، ويتحوّل إلى وسيلةٍ لتثبيت الفساد لا لمكافحته.
وحين يُقدّم الناخب مصلحته الشخصية أو الفئوية على المصلحة العامة، يفتح الباب أمام الفاسدين ليتسللوا باسم الخدمات الفردية أو الوعود الزائفة. وهكذا تتحول العملية الانتخابية إلى دائرةٍ مغلقة من الفساد المتبادل: السياسي يشتري الولاء، والناخب يبيع صوته، والنتيجة خراب عام.
ويسهم الإعلام الموجّه، الخاضع للسُّرّاق والفاسدين أو للأحزاب، في تزييف الوعي الجماهيري، عبر تقديم الفاسدين بثوب المنقذين أو الوطنيين. فيغدو التمييز بين الكفؤ والفاسد أمرًا صعبًا على المواطن البسيط، فتختلط المعايير ويُصاب الوعي الجمعي بالتشويش.
في العراق الذي شهد حروبًا وانقسامات، يستغل السياسيون خوف الناس من المجهول، فيصوّرون أنفسهم كحماةٍ من الفوضى، حتى لو كانوا هم من صنعها. حينها يُصبح الشعب أسير الخوف، يختار «الشرّ المألوف» على «المجهول المحتمل»، فيستمر الفساد باسم الاستقرار.
وهنا تتحمّل النخب الثقافية والأكاديمية جزءًا من المسؤولية. فغياب دورها التنويري، أو انخراط بعض أفرادها في خدمة السلطة الفاسدة، يترك الجماهير دون بوصلة. فالإصلاح يبدأ من الوعي، والوعي لا يُبنى إلا بالتعليم والإعلام والفكر النقدي.
إن انتخاب الفاسدين ليس مجرد خطأ في التقدير، بل هو خلل أخلاقي وثقافي عميق. فلا يمكن بناء دولةٍ عادلة إلا عندما يُدرك الشعب أن صوته أمانة، وأن المسؤول ليس زعيمًا يُقدّس، بل موظفٌ يُحاسب. فحين ينهض الوعي، يسقط الفساد تلقائيًا، لأن الشعب الواعي لا يمنح الشرعية إلا لمن يستحقها.
ما لم يُدرك الناس أن أصواتهم هي السلاح الوحيد المتبقي، ستبقى صناديق الاقتراع صناديقَ دفنٍ للأمل. فالإصلاح يبدأ من الوعي، والوعي يبدأ من السؤال البسيط: لماذا نمنح أصواتنا لمن خذلنا؟
هذا السؤال يحمل مفارقة موجعة، وتكمن الإجابة عليه في لحظة التصويت ذاتها، في تلك «الخيانة الصغيرة» التي تُرتكب باسم الأمل، وصمت الضمير حين يساوم على الكرامة بثمنٍ بخس.
الديمقراطية ليست ورقة تُلقى في صندوق، بل مسؤولية تُلقى على عاتق الوعي. فإذا غاب الوعي، تحوّلت الانتخابات إلى مسرحٍ عبثيٍّ يُعاد فيه تمثيل المأساة ذاتها، ويخرج الناس كل مرة أكثر خيبةً وأشد فقرًا. الفاسد لا يصعد وحده، بل يُحمل على أكتاف الخوف والطائفية والعصبية والولاء الأعمى.
الخراب يبدأ حين نصغي إلى الوعود الكاذبة ونغضّ الطرف عن السرقات بحجة «كلهم كذلك». يبدأ حين نصمت عن الكذب لأن الكاذب من جماعتنا، ونبرّر للظلم لأن الظالم يشبهنا في المذهب أو العِرق أو الحزب.
الشعوب التي تنتخب الفاسدين لا تُسرق فقط، بل تُهان؛ فهي تمنح الشرعية للخراب، ثم تبكي على أنقاض ما صنعت بأيديها. ولا خلاص لها إلا حين تفهم أن التغيير لا يولد من الصناديق، بل من الضمائر؛ من شجاعة القول: كفى. ومن الإيمان بأن الكرامة أثمن من خبزٍ ملطَّخٍ بالذل.
لقد صنع العراقيون بأيديهم طبقةً سياسية لا تمثّل وعيهم ولا تاريخهم، بل تمثّل انقسامهم وخوفهم وتعبهم الطويل. فمن يختار زعيمه على أساس الطائفة لا الكفاءة، ومن يرفع شعارات الولاء قبل شعارات الوطن، لا ينبغي أن يتساءل بعد ذلك عن أسباب الانهيار.
العراق لم يكن بلدًا فقيرًا ولا عاجزًا، بل كان غنيًا بالثروات والعقول، لكنه أُصيب بالعمى الجمعي، فتعوّد أهله على الرداءة كما يتعوّد المريض على وجعه. وحين تغيب المساءلة، ويصبح الولاء معيارًا وحيدًا للترقي، يصل الحكم إلى من لا يعرف كيف يُدير مدرسة، فضلًا عن وطنٍ بحجم العراق.
في أرض التاريخ والحضارة، تحوّلت السياسة إلى مهنةٍ بلا علم، وإلى حرفةٍ بلا ضمير. وصار الإعلام تابعًا للسلطة بدل أن يراقبها، واختار الجمهور العيش بين وهم الزعيم وعدالة السماء، متناسيًا أن العدالة تبدأ من الأرض، من الموقف، من الكلمة، من الرفض.
إن إعادة بناء العراق لا تبدأ بتغيير الأشخاص، بل بتغيير الوعي الجمعي الذي صنعهم. تبدأ حين يتوقف المواطن عن التصفيق للخطأ، وعن تبرير الفشل، وحين يُدرك أن الصمت خيانة، وأن الخوف ليس فضيلة. فالبلاد التي تريد أن تُشفى، لا تضع مصيرها بيد من كان سبب مرضها. فالأمم لا تنهض بالصدفة، ولا تسقط بالمؤامرات وحدها، بل بخياراتها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. د. رياض فرنسيس

    منذ 1 شهر

    احسنتم التوصيف استاذ جورج في ما آلت اليه اوضاع العراق و شعبه و اعجبتني كثيرا عبارة "الشعوب لاتحكم الا بمن يشبهها" لان الكثير يلومون اما حاكما مستبدا او دكتاتورا دمويا او تدخلات إقليمية او دولية كاسباب لمآسيهم في الوقت الذي هم الذين يختارون جلاديهم! تحياتي

  2. معروف لطيف بهاءالدين

    منذ 1 شهر

    %100 صريح و صحيح .

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

"دبلوماسية المناخ" ومسؤوليات العراق الدولية

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram