TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > القضاء وأزمات الدولة القانونية العربية

القضاء وأزمات الدولة القانونية العربية

نشر في: 26 أكتوبر, 2025: 12:02 ص

نبيل عبدالفتاح

في أعقاب هزيمة الخامس من يونيو 1967، فُتح الحوار واسعاً بين بعض المفكرين والمثقفين العرب البارزين عن الأسباب التي أدت إليها، لأنها شكلت صدمة تاريخية للعقل العربي، ومعها انكشفت الإشكاليات المستمرة منذ صدمة الحداثة، والصراع بين التراث والتقاليد، وبين الحداثة الغربية كأنساق فلسفية وعقلانية، وقيم، وتمايزات بين الفكر الوضعي، والميتاوضعي في مجالات الحياة على اختلافها، وفي النظم السياسية والقانونية والتعليمية. أعادت السجالات إنتاج الانقسامات التاريخية بين مدارس الفكر والعمل السياسي الليبرالي، والإسلامية، والماركسية -على اختلاف مصادرها- والقوميين العرب البعثيين والناصريين.
سادت بعض من المقولات الموروثة في هذه السجالات، وبعض المقولات الرائجة حول الديمقراطية الليبرالية التمثيلية على محدوديتها، وهيمن اليسار العربي على الحوار، وضرورات استكمال مراحل التحول الاشتراكي وغيرها من الأفكار المستمدة من المتون الفلسفية الماركسية اللينينية والماوية.
كان الغائب عن بعض هذه الحوارات جوهر الأزمات الهيكلية التي تجسدت في الاختلالات البنائية لدولة ما بعد الاستقلال، من حيث الوعي التأسيسي بمعنى مفهوم لدولة، ورمزيتها، فوق مكوناتها الأساسية، وتمايزها عن النظام السياسي، والسلطة السياسية وأجهزتها البيروقراطية، والأمنية، والعسكرية. كانت غالبُ السلطات السياسية الحاكمة، وآباء الاستقلال وخلفائهم يدركون ذواتهم السلطوية المتضخمة، وكأنها هي تجسيد للدولة، والمعبرة عن معناها ورمزيتها، وذلك في ظل هيمنة الشعبوية السلطوية على هذه الأنظمة التسلطية والاستبدادية، والملكية، ومصادر شرعيتها ذات السند الديني.
كانت مقاربة الدولة وأزماتها في ظل مجتمعات انقسامية محدودة جدًا، لصالح السجال الإيديولوجي المفارق في بعضه لوضعيات المجتمعات العربية لا سيما في المشرق العربي، والسودان، والمنطقة المغاربية باستثناء حالة دولة المخزن في المغرب.
في السجالات الإيديولوجية، كانت الصراعات تدور حول المقولات الكبرى، ومن ثم سادت سيولة هذه المقولات العامة في قدراتها على تفسير الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية، أو غالبها أو بعضها، لكنها لا تفسر شيئًا، لأنها كانت بعيدةً عن البحوث السوسيو-سياسية والسوسيو-دينية، والاقتصادية المحددة في كل مجال من المجالات نظرًا للقيود السلطوية على حريات البحث والتعبير، من هنا لم تؤدِّ بعض هذه التفسيرات لصدمة الهزيمة إلى النفاذ لجوهر أزمات الدولة القانونية، وسلطاتها، والمجتمع!
أحد أكثر اختلالات دولة ما بعد الاستقلال تمثل في دمج السلطات الثلاث في هيكل القوة حول رئيس الدولة أيًا كان، الذي يوجه ويحرك ويأمر كافة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وغياب توزيع للقوة بين هذه السلطات على نحو متوازن، بحيث يجعل من كل سلطة رقيبة على عمل السلطات الأخرى، ونشاطاتها في إطار مفهوم الدولة القانونية، وسيادة القانون –على التمايز بين المفهومين- في ظل مبدأ الفصل بين السلطات.
كان بعض من الجدل الإيديولوجي بعيدًا عن درس أزمات الشرعية السياسية لكافة النظم السياسية العربية، وتوظيف الدين سياسيًا في الشرعية، والحشد والتعبئة، والسياسات الخارجية والنزاعات الإقليمية، وهيمنة الشعارات الإيديولوجية حول السيادة، والتحرر الوطني، والاستقلال وعدم الانحياز، والوحدة العربية، والعدالة الاجتماعية بعيدًا عن القيود المفروضة على الحريات العامة والفردية، وقمع العقل النقدي الحر.
من هنا لا نجد إلا قليلًا الجدل حول شكلية نظام الاستفتاءات المزورة، ونظام الطوارئ، وتحوله إلى نظام أساس يطبق في مجريات الحياة لا سيما في القضايا ذات الطبيعة السياسية، بل، وفي الجرائم التموينية..الخ، ومساسه باستقلال السلطة القضائية وأشكال التدخل والتأثير على مسارات العدالة في الدول الناشئة التي لا تمتلك تراثًا من التقاليد القانونية والقضائية الحديثة كمصر والمغرب.
من أبرز مشكلات دول ما بعد الاستقلال التنظيم السياسي الوحيد – أو بعض التحالفات الحزبية التابعة للحزب الحاكم كما في البعث السوري -، والتعددية الحزبية الشكلية المقيدة على نحو لا يسمح ببناء مشتركات وجوامع عابرة عبر وفوق المكونات الأساسية للمجتمع المنقسم دينيا ومذهبيا وعرقيا وقبائليا وعشائريا ومناطقيا ولغويا وقوميا، ومن ثم تمثيلها سياسيًا في المؤسسات السياسية التمثيلية الديمقراطية الغائبة أصلًا، لا سيما البرلمانات، وليس من خلال الإقصاءات لبعضها، وتوظيف بعض الموالين للحاكم، والنظام.
لم يهتم الفكر السياسي والدستوري العربي إلا قليلًا بأزمات السلطات القضائية وعدم استقلالها، والقيود المفروضة على صلاحياتها، وتبعية أجهزة النيابة العامة للسلطة التنفيذية على الرغم من كونها جزءًا لا يتجزأ من السلطة القضائية.
مصر وبعض الدول العربية كانت الاستثناء العربي التاريخي في مقاربة استقلال السلطة القضائية، وجماعة القضاة، وذلك لعديد الاعتبارات: 1- الدور التاريخي الذي لعبه القضاء والقضاة المصريون، في أقلمة القوانين الغربية وتطبيعها مع البنيات الاجتماعية والاقتصادية المصرية. 2- استقلالية القضاء كانت جزءًا من اهتمامات الفقه والقضاء المصري في المرحلة شبه الليبرالية، وفي ممارسة الجماعة القضائية لسلطاتها في القضايا المطروحة أمامها، وعدم الخضوع لأي جهة من الجهات التنفيذية. 3- النخبة السياسية المصرية، كان أبرز مكوناتها من رجال القانون، ومن ثم كان تكوينهم وإدراكهم، ووعيهم وثقافتهم القانونية تولي اهتمامًا رئيسًا باستقلالية القضاء، والجماعة القضائية، وكان توحيد القضاء المصري أحد قضايا الحركة الوطنية حتى تحقق مع توقيع اتفاقية مونترو 1937، وتم إلغاء المحاكم المختلطة فعليًا عام 1949. 4-التكوين القانوني والمعرفي اللاتيني للنخبة القانونية المصرية، وإطلاعها على تطورات العلم القانوني المقارن والسياسي في الثقافة القانونية والسياسية الغربية، مع إطلاعها على النظام القانوني للشريعة الإسلامية.
في أعقاب هزيمة يونيو 1967، صدر بيان نادي القضاة ذائع الصيت عام 1968، الذي طالب باستقلال السلطة القضائية، وهو ما أدى إلى نقيضه، وهو إعادة تشكيل الهيئات القضائية، واستبعاد العناصر المطالبة بالاستقلال القضائي، وهو ما أطلق عليه مذبحة القضاء. استمرت مطالبات الجماعة القضائية، ورموزها في المطالبة باستقلال القضاء والقضاة في ظل عهد الرئيسيين السادات، ومبارك، وأيضًا بعد انتفاضة 25 يناير 2011، وفي ظل حكم الإخوان المسلمين، والسلفيين، خاصة في محاصرتهم للمحاكم من خلال المظاهرات التي قاموا بها للتأثير على السلطة القضائية، وكان من أخطر ما تم الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس الأسبق محمد مرسي في 22 نوفمبر 2012، الذي شكل تدخلًا من السلطة التنفيذية في أعمال السلطة القضائية، ومنها إعادة التحقيقات والمحاكمات للمتهمين في القضايا المتعلقة بقتل وإصابة وإرهاب المتظاهرين أثناء الثورة.
تُعتبر القرارات الرئاسية نهائية وغير قابلة للطعن عليها من أي جهة أخرى بما فيها المحكمة الدستورية العليا منذ توليه الرئاسة حتى إقرار دستور جديد، وانتخاب مجلس شعب جديد. ويعين النائب العام من بين أعضاء السلطة القضائية بقرار من رئيس الجمهورية لمدة أربع سنوات وترتب عليه إقالة النائب العام المستشار عبدالمجيد محمود، واستبداله بالمستشار "طلعت إبراهيم". تحصين مجلس الشورى واللجنة التأسيسية بحيث لا يحل أي منهما.
بيانٌ دستوريٌّ عمل معه دمج كامل للسلطات في حيازة رئيس الجمهورية الأسبق!.
شكل هذا الإعلان انقلابًا دستوريًا، أخطر من انقلاب إسماعيل صدقي ودستور 1930 في تاريخ مصر الدستوري.
الاهتمام التاريخي المستمر مصريًا باستقلال القضاء، والقضاة مرجعه الدور التاريخي للقضاة في تطور وبناء الدولة القومية وسلطاتها وصون الحقوق والحريات العامة والشخصية في مصر.
في أعقاب فشل الربيع العربي المجازي، تكرست مشكلة استقلال القضاء والقضاة في غالب الدول العربية، من خلال عودة ظاهرة موت السياسة، والشعبوية السلطوية، والأخطر الحروب الأهلية في العراق وسوريا واليمن والسودان، وليبيا، ومن ثم أدت هذه النزاعات الأهلية إلى هيمنة الفوضى، والموت، والتدمير للبشر والحجر، وغياب القانون، والسلطة القضائية، وأصبح قانون القوة والغلبة والموت للمخالفين، وللأطراف المتصارعة هو المسيطر في مجتمعات الحروب الأهلية في ظل القوة الميليشاوية المسيطرة –في ليبيا والسودان واليمن وسوريا-، ومن ثم باتت مجتمعات بلا قضاء ولا قانون سوى قانون القوة العمياء.
لن يستطيع العالم العربي إعادة النظر في مشاكله المتراكمة والمتفاقمة دون النظر عميقًا في ضرورات بناء الدولة القانونية، والنظم التمثيلية والحريات وصونها، وذلك من خلال استقلال القضاء والقضاة.
-عن الاهرام

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

"دبلوماسية المناخ" ومسؤوليات العراق الدولية

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram