صلاح نيازي
إنْ لا بدّ لهذا الموضوع من مقدّمة، فقد تكون الطُرفة التالية كافية.
عاش غوغول اثنتين وأربعين سنة (1809 – 1852).
أديب روسي من أصل أوكراني – بولندي.
كتب والده المسرحيات والشعر والمشاهد الهزلية باللغة الأوكرانية.
غوغول من آباء الأدب الروسي، ومن مؤسّسي المدرسة الطبيعية (natural school) وكذلك المدرسة الواقعية.
نالت رواياته إعجاب تولستوي، وتأثّر بها دوستويفسكي الذي تُنسب إليه المقولة الشهيرة: «كلّنا خرجنا من معطف غوغول».
كتب قصص «أمسيات في قرية ديكانكا» وهو في الثانية والعشرين، عن ذكريات طفولته في أوكرانيا، فعادت عليه بالشهرة الواسعة، وزرعت في الوقت نفسه حياة جديدة في الأدب الروسي.
عموماً، كتابات غوغول عالمية، حتى وإن كتب عن حدث محليّ ضيّق.
لكنْ كيف أصبحت عالمية؟
قبل كلّ شيء، بفضل موهبته الفطرية وفضوله المعرفي. ثمّ إنه عاش في بيئتين مختلفتين، هما أوكرانيا وروسيا، وأتقن اللغتين. أضف إلى ذلك كثرة تنقله في بعض الدول الأوروبية، إذ عاش في إيطاليا لفترة، وكذلك في ألمانيا، كما زار بيت المقدس عام 1848.
إلى ذلك، درس غوغول الرسم في أكاديمية الفنون، وقرّر في فترة ما تأليف كتابين: أحدهما عن أوكرانيا، ولا سيما الميثولوجيا والفولكلور، وثانيهما تأريخ العالم.
بذا أصبحت عدسته البصرية أشدّ تركيزاً وأوسع مدى، وصوره أكثر إشراقاً ونضارة، وأسلوبه أكمل رنيناً (resonance).
لكن قبل النظر في القصة، لا بدّ من القول إنّ كتابة مقالة من أيّ نوع عن قصة بطلها مجنون – جزئياً أو كلّياً – صعب جدّاً، ذلك لأنّ الحوادث لا تتطوّر منطقياً ولا تتدرّج بحيث يمكن تتبّعها.
الأسلم، في هذه الحالة، أن نتناول البداية عموماً والختام خصوصاً، عسى أن نصل إلى نتيجة مقبولة.
من الطريف أنّ القصة القصيرة كانت أكثر الأساليب الأدبية شيوعاً في روسيا وأوروبا.
كتب بلينسكي، عام 1834، وكان أشهر ناقد روسي:
«القصة القصيرة الآن من بين كلّ الأساليب الأدبية هي الهدف الكلّي لاهتمام ونشاط جميع هؤلاء الذين يكتبون ويقرأون. إنها خبزنا اليومي، وكتابنا الذي نأخذه معنا لقراءتنا الليلية، ونفتح أعيننا عليه».
تبدأ قصة «يوميات مجنون» كما يلي:
الثالث من أكتوبر
«شيء غريب حدث هذا اليوم. استيقظت متأخراً. جاءت مافيرا بحذائي النظيف. سألتها عن الوقت، فقالت: الساعة تجاوزت العاشرة. أسرعتُ في ارتداء ملابسي. لأكنْ صادقاً، لو أنّني عرفت بالنظرة المتجهّمة التي سيصوّبها لي المدير، لامتنعت عن الذهاب إلى الدائرة أبداً. فمنذ مدّة وهو يقول لي: لماذا أنت مشوَّش دائماً، تنتقل أحياناً من مكان إلى آخر كالمجنون، وعملك رديء. الشيطان نفسه لا يستطيع أن يفهمه… لا بدّ أنه يغار مني».
من أهم ميزات غوغول التفاصيل المدهشة، مثل آلة تصوير تلتقط جملة من المرئيات مرة واحدة. ففي الثالث من أكتوبر مثلاً، يرتدي الراوي معطفه ويأخذ مظلته. كانت السماء تهطل مدراراً، رغم ذلك كانت رؤيته دقيقة وواضحة. أكثر من ذلك، راح يتذكّر أشياء ليست في المشهد الآن، ولكن رآها سابقاً.
قال الراوي: «ما من أحد سوى فلّاحات مسنّات قليلات يحتمين تحت ثيابهنّ، وبعض التجار الروس تحت مظلاتهم، وواحد أو اثنان من السعاة. أمّا الطبقة الراقية فثمة واحد أو اثنان منهم. أمّا في الشوارع فهناك امرأة رفعت ثوبها فوق رأسها، أو تاجر ملتحٍ تحت مظلته، أو ساعي مكتب».
في الفقرة الأولى من يوميات الرابع من أكتوبر، لا أثر للجنون. الراوي هنا يصف مديره بدقة أديب محترف. يقول مثلاً: «لا بدّ أن المدير ذكيّ جداً، فخزانة كتبه مرصوفة بالكتب. قرأت عناوين بعض الكتب فإذا هي كلّها بالفرنسية والألمانية. أنظر إلى وجهه وسترى الجدّية تومض في عينيه. لم أسمعه ينطق كلمة زائدة عن الضرورة».
يتضمّن يوم 4 أكتوبر، بالإضافة إلى العُدّة الثقافية، جانباً آخر مهماً، هو التقاؤه بالفتاة التي أحبّها. ولأهمية هذا اللقاء كتب الراوي الساعة التي حدث فيها ذلك (حوالي الواحدة والنصف).
يقول الراوي: «حدث شيء لا يمكن لقلم أن يصفه بصورة مناسبة».
ظنّ الراوي أنّ المدير هو الذي فتح الباب، فإذا بها هي نفسها. أول ما لفت نظره ثوبها الأبيض مثل بطّة، وحين نظرت إليه فكأنّها الشمس مشرقة. يقول: «سألتها عن أبيها. يا له من صوت! كناري، تماماً مثل كناري. سقط المنديل من يدها بالصدفة، فرمى نفسه عليه فتزحلق وكاد يكسر فمه. يا له من منديل له رائحة العنبر النقي».
في الأسطر الثلاثة أعلاه تظهر إحدى براعات غوغول؛ فقد استعمل ثلاث حواس: البصر (اللون الأبيض)، والسمع (صوتها)، والشمّ (رائحة المنديل). وحين أعطاها المنديل اقترب منها، فانفرجت شفتاها الحلوتان، وهكذا أضاف حاسة رابعة هي الذوق.
حين عاد إلى البيت، راح ينقل شعراً لبوشكين:
«ساعة واحدة من دونك تبدو مثل سنة،
ما الذي يهمّني من وجودي إنْ أنا أُنتزَعُ منكِ».
على منوال كهذا كان محرار الجنون يجمح فيصعد أو يهبط أو يعتدل لدرجة الصحو، إلا أنّ جنوناً آخر كان يتربّص ببطل القصة، وسرعان ما أطبق عليه إطباقاً كاملاً، وما من فكاك. إنه الوهم الذي استلب حواسه، وعرقل تلافيف دماغه. لا ريب أنّ أقسى عدوّ هو ما كان يربض في داخلك.
جليةُ الأمر أنّ بطل القصة قرأ بالمصادفة نبأً صحفياً في اليوم الخامس من ديسمبر مفاده أنّ منصب الملك قد شغر في إسبانيا، وأنّ الطبقات العليا تواجه صعوبات جمّة في اختيار وريث له. صدّق بطل القصة فظنّ أنه هو ملك إسبانيا المنشود. يقول: «هذه حقيقة واضحة وضوح الشمس، أمّا الذين يعتقدون غير ذلك فإنهم يظنّون أنّ عقل الإنسان موجود في رأسه، وهذا شيء غلط، لقد جلبته الريح من جهة بحر قزوين».
هكذا توسّع الجنون من رقعة محلية ضيّقة إلى رقعة ضمّت الآن تخوم إسبانيا.
وفي هذه الأثناء زاره موظف إداري ليرافقه إلى المكتب بعد غياب ثلاثة أسابيع. وضعوا أمامه أوراقاً للتوقيع عليها، لكنه بدلاً من توقيعه المعتاد كتب: «فرديناند الثامن» وخرج.
ولأنه لا يثق بالخياطين راح يفصّل لنفسه رداءً يليق به ملكاً.
عنون بطل القصة المادة اللاحقة من مدريد حسب ظنّه. قال: «أنا الآن في إسبانيا. وصل الوفد الإسباني هذا الصباح. وصلنا إلى الحدود الإسبانية، ثمّ القصر».
هكذا تصوّر بطل القصة مستشفى المجانين قصراً.
أُدخل إلى غرفة صغيرة، فرأى أناساً حليقي الرؤوس، وحين رفض، ضربه "الوزير" بعصاه مرتين على ظهره. كاد يبكي، ومع ذلك تصوّر أن هذا الإجراء اختبار له.
قال بطل القصة: «كنت أعرف أن الفرسان الإسبان (chivalry) يقومون بهذه الطقوس قبل أن يُدخلوا شخصاً ما في الطبقة العالية».
قرّر بطل القصة أن يشغل نفسه بقضايا عامّة، حيث كان قلقاً، خاصة أنّ ظاهرة غريبة ستقع، ذلك أنّ الأرض ستسقط على القمر. أكّد ذلك عالم إنكليزي شهير.
شعرتُ بقلق حين تصوّرت هشاشة القمر اللااعتيادية، فالكل يعرف أنّ القمر صُنع في هامبورغ، وعملهم لم يكن متقناً».
وكتب في شهر يناير أنّ إسبانيا ما تزال غامضة، وأعرافهم القومية وتشريفات البلاط غريبة جدّاً. ففي هذا اليوم حلقوا شعري، حتى إنني صحت بأعلى صوتي: «لا أريد أن أكون راهباً!»
ثمّ يقول: «أعتقد أنّني وقعت بأيدي محاكم التفتيش (Inquisition)، والرجل الذي كنت أعتقد أنه وزير دولة إنما هو مدير المحاكم نفسه، ولكن ما زلت لا أفهم كيف يخضع الملوك لمحاكم التفتيش».
يختم غوغول قصته «يوميات مجنون» بقطعة بلغ بها قمّة في كمال التأليف، صياغةً دقيقةً ولغةً محكمة. إنها أيقونة فنية من نوع فريد، لباب ولا قشور، مسكونة بسحر غامض.
بطل القصة في أقصى ضعفه الإنساني، لدرجةٍ يستحيل معها إلى طفل منكوب، هو في كفّة والعالم في كفّة، متنافسان في حلبة الوجود.
وربّما من الأفضل أن نقدّم أدناه ترجمة لهذه القطعة:
«لا، ليست لي القوّة لتحمّله أكثر من ذلك! ما يقومون به معي! يصبّون ماءً بارداً على رأسي! لا يرون، لا ينظرون، لا يُصغون إليّ! ما الذي فعلتُ لهم؟ لماذا يعذّبونني؟ ما الذي يريدونه من إنسان حطام تعيس مثلي؟ لا يمكنني تحمّل هذه العذابات، رأسي يحترق، وكلّ الأشياء تدور حولي. أنقذني، خذني بعيداً! أعطني عربة "ترويكـا" بخيول بسرعة الريح!
اصعد إلى مقعدك أيها السائق، دع الأجراس تقرع! أيتها الخيول، اصعدي إلى السماء، إلى الأعلى، واحمليني بعيداً عن هذا العالم! أعلى، أعلى، حيث ما من شيء نراه، ما من شيء، ما من شيء أبداً! هناك السماء… عذبوه… شدّي طفلك على صدرك أمامي… نجمة صغيرة تتلألأ من بعيد، الغابة تجتازنا بأشجار مظلمة، والقمر في ضباب أزرق ينتشر تحت قدميّ… وتر قيثارة يدوّي في الرأس، البحر من هذا الجانب، وإيطاليا من الجانب الآخر، وهناك يمكن رؤية أكواخ روسية… هل ذاك بيتي في المنطقة الأبعد الزرقاء؟ هل هي أمي التي تجلس عند الشباك؟ يا أمي، أنقذي ابنك المسكين! أذرفي دمعة على رأسه المعذّب الموجع! انظري كيف عذّبوه! شدّي طفلك إلى صدرك! ما من مكان له في هذا العالم! اضطهدوه! أمي، عزيزتي، اشفقي على ابنك المريض الصغير…».
يوميات مجنون – نيقولاي غوغول Gogol
"كلّنا خرجنا من معطف غوغول"

نشر في: 26 أكتوبر, 2025: 12:03 ص









