TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الضمير و «الظَّهْر» في مهنة الرأي

الضمير و «الظَّهْر» في مهنة الرأي

نشر في: 27 أكتوبر, 2025: 12:02 ص

محمد علي الحيدري

ليست أزمة الصحافة اليوم في نقص الكفاءة أو ضعف الأدوات، بل في صراعٍ أخلاقيٍّ عميقٍ بين الضمير المهني وواقعٍ سياسيٍّ تتنازع فيه المصالح والنفوذ على مساحة الكلمة.
فالكتابة في الشأن العام — سياسيًّا كان أو اقتصاديًّا أو في قضايا النزاهة — لم تعد مجرّد ممارسة فكرية أو مهنية، بل صارت فعلًا محفوفًا بالمخاطر؛ لأن الحقيقة، في كثير من البيئات، تُقاس بمدى ما تجرحه من أصحاب السلطة.
أحد الزملاء الإعلاميين لخّص المشهد بكلمة واحدة تنطوي على وجعٍ كثير: «ما عندي ظَهْر!». ولم يكن يقصد العوز المادي أو غياب التأييد، بل انعدام الغطاء الذي يحمي الكاتب حين يكتب بضميرٍ حيٍّ.
فالـ"ظَّهْر" هنا ليس استعارةً اجتماعيةً، بل توصيفًا دقيقًا لشبكةٍ من النفوذ السياسي أو المالي أو المسلح التي تمنح الأمان للكاتب ما دام لا يقترب من مناطقها الحساسة.
إنه غطاءٌ يحميك ما دمت لا تزعج من وفّره لك، ويُسقطك متى تجاوزت الحدّ المرسوم لك. بهذا المعنى، يصبح "الظَّهْر" قيدًا بقدر ما هو حمايةٌ، لأنه يحدد سقف الحرية وحدود الصدق.
الكاتب الذي تحميه قوةٌ نافذة قد ينجو من الخطر، لكنه لا ينجو من الشك في ضميره. أما من يكتب بلا ظَهْر، فربما يدفع الثمن، لكنه يربح حريته، ويظل صادقًا مع نفسه ومع قارئه. تراجع بعض الأصوات المهنية عن المشهد لا يعني ضعفًا أو انسحابًا، بل قد يكون موقفًا نزيهًا من واقعٍ لا يحتمل الكلمة الحرة.
فالسكوت أحيانًا شكلٌ من أشكال الشجاعة، حين يكون البديل هو الانزلاق إلى التواطؤ أو إلى تزيين الزيف بلغةٍ أنيقة. الصحافة لا تُقاس بجرأة العنوان، بل بشرف المقصد، ولا تُختزل في منابر عالية الصوت، بل في أصواتٍ قليلةٍ تقول الحقيقة بصمتٍ ناصع.
فالضمير في الكتابة ليس زينةً فكريةً، بل عبئًا نبيلًا يحمله من اختار الصدق طريقًا، حتى لو سار فيه وحيدًا. ومن لا "ظَهْر" له، يكفيه أن يكون ظَهْره هو ضميره.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram