محمد علي الحيدري
ليست أزمة الصحافة اليوم في نقص الكفاءة أو ضعف الأدوات، بل في صراعٍ أخلاقيٍّ عميقٍ بين الضمير المهني وواقعٍ سياسيٍّ تتنازع فيه المصالح والنفوذ على مساحة الكلمة.
فالكتابة في الشأن العام — سياسيًّا كان أو اقتصاديًّا أو في قضايا النزاهة — لم تعد مجرّد ممارسة فكرية أو مهنية، بل صارت فعلًا محفوفًا بالمخاطر؛ لأن الحقيقة، في كثير من البيئات، تُقاس بمدى ما تجرحه من أصحاب السلطة.
أحد الزملاء الإعلاميين لخّص المشهد بكلمة واحدة تنطوي على وجعٍ كثير: «ما عندي ظَهْر!». ولم يكن يقصد العوز المادي أو غياب التأييد، بل انعدام الغطاء الذي يحمي الكاتب حين يكتب بضميرٍ حيٍّ.
فالـ"ظَّهْر" هنا ليس استعارةً اجتماعيةً، بل توصيفًا دقيقًا لشبكةٍ من النفوذ السياسي أو المالي أو المسلح التي تمنح الأمان للكاتب ما دام لا يقترب من مناطقها الحساسة.
إنه غطاءٌ يحميك ما دمت لا تزعج من وفّره لك، ويُسقطك متى تجاوزت الحدّ المرسوم لك. بهذا المعنى، يصبح "الظَّهْر" قيدًا بقدر ما هو حمايةٌ، لأنه يحدد سقف الحرية وحدود الصدق.
الكاتب الذي تحميه قوةٌ نافذة قد ينجو من الخطر، لكنه لا ينجو من الشك في ضميره. أما من يكتب بلا ظَهْر، فربما يدفع الثمن، لكنه يربح حريته، ويظل صادقًا مع نفسه ومع قارئه. تراجع بعض الأصوات المهنية عن المشهد لا يعني ضعفًا أو انسحابًا، بل قد يكون موقفًا نزيهًا من واقعٍ لا يحتمل الكلمة الحرة.
فالسكوت أحيانًا شكلٌ من أشكال الشجاعة، حين يكون البديل هو الانزلاق إلى التواطؤ أو إلى تزيين الزيف بلغةٍ أنيقة. الصحافة لا تُقاس بجرأة العنوان، بل بشرف المقصد، ولا تُختزل في منابر عالية الصوت، بل في أصواتٍ قليلةٍ تقول الحقيقة بصمتٍ ناصع.
فالضمير في الكتابة ليس زينةً فكريةً، بل عبئًا نبيلًا يحمله من اختار الصدق طريقًا، حتى لو سار فيه وحيدًا. ومن لا "ظَهْر" له، يكفيه أن يكون ظَهْره هو ضميره.










