حيدر الشاكري
ترجمة: عدوية الهلالي
بينما تُهيمن الحروب على عناوين الأخبار في أنحاء أخرى من المنطقة، يُواجه العراقيون أزمةً أقل هدوءًا، لكنها تُزعزع الاستقرار بنفس القدر، إذ يُجفف تغير المناخ الأنهار، وتُقلل دول المنبع المجاورة تدفقات المياه، وقد فشل قادة البلاد، المعروفة تاريخيًا باسم "أرض النهرين"، في إدارة أهم مواردها الحيوية.
ولا تُمثل ندرة المياه هذه أزمةً وطنيةً فحسب، بل تُمثل أيضًا دافعًا متزايدًا للتوتر الداخلي، إذ تُؤجج النزوح، وتُفاقم الفقر في المناطق الريفية، وتُسبب مشاكل صحية عامة كبيرة، وتُؤجج الاضطرابات في مجتمعاتٍ هشةٍ أصلًا.
ويواجه العراق أدنى احتياطيات مائية له منذ أكثر من 80 عامًا، حيث انخفضت من حوالي 18 مليار متر مكعب العام الماضي إلى حوالي 10 مليارات متر مكعب اليوم. وتتجلى آثار هذه الأزمة في جميع أنحاء البلاد بطرقٍ مُختلفةٍ، لكنها مُدمرةٌ بنفس القدر. في ذي قار الواقعة جنوب نهر الفرات، نزحت أكثر من 10,000 عائلة بسبب انحسار منسوب الأنهار وجفاف الأهوار. وفي البصرة، يُسبب ارتفاع الملوحة والتلوث الناجم عن ندرة المياه تصاعدًا في الأمراض المرتبطة بالمياه. وفي مدن مختلفة في أنحاء العراق، يحتج السكان على نقص المياه ويطالبون بحلول، حيث يعاني البعض من انقطاع المياه لأكثر من شهر. كما أثرت الأزمة على الأمن الغذائي للبلاد، حيث أعلن وزير الموارد المائية في صيف 2025 تعليق الخطط الزراعية لشهر أيلول، بما في ذلك زراعة القمح، بسبب النقص الحاد في المياه.
وفي حين أن انخفاض هطول الأمطار وارتفاع درجات الحرارة يُمثلان تحديين عالميين، فإن أزمة المياه في العراق هي أيضًا نتيجة للقيود على المنبع والإهمال المحلي. لقد أدت السدود التركية والإيرانية الرئيسية إلى انخفاض حاد في تدفقات الأنهار، إلا أن بغداد لم تستجب بدبلوماسية مائية متسقةٍ واحترافيةٍ، إذ يُضعف الفساد والمصالح الذاتية بين النخبة السياسية العراقية القدرة المؤسسية، ويخلق فرصًا لتركيا وإيران للضغط من أجل صفقات تخدم أولوياتهما. وتترك التنافسات الداخلية العراق دون استراتيجية متماسكة لحماية حصته.
ويتأثر الأمن المائي العراقي بشكل كبير بالبنية التحتية في دول المنبع في تركيا وإيران، وبدرجة أقل في سوريا. ففي تركيا، يمتد مشروع جنوب شرق الأناضول (GAP) على أكثر من 22 سدًا رئيسيًا و19 محطة لتوليد الطاقة الكهرومائية على نهري دجلة والفرات.
وعلى نهر الفرات، تشمل المنشآت الرئيسية سدودًا مختلفة مثل سد أتاتورك، أحد أكبر السدود في العالم، والذي ينظم تدفق المياه قبل أن يدخل النهر إلى سوريا. وعلى نهر دجلة، واجه سد إليسو - الذي اكتمل بناؤه عام 2020 - انتقادات بالفعل لتقييده تدفقات المياه إلى العراق، بينما من المتوقع أن يزيد سد جيزرة قيد الإنشاء من تقليص توافر المياه في المصب. كما أعادت إيران هندسة تدفقات المياه من خلال السدود ومشاريع تحويل المياه على الروافد التي تغذي نهر دجلة. فيُعدّ نهرا سيروان (ديالى) والزاب الصغير من بين أكثر الأنهار تضررًا، حيث توجد منشآتٌ رئيسيةٌ مثل سدي داريان وسردشت، بالإضافة إلى أنفاق تحويل متعددة تُحوّل المياه إلى الزراعة الإيرانية والطاقة الكهرومائية.
أما دور سوريا، فهو أكثر محدودية، ولكنه لا يزال مهمًا، إذ يُنظّم سد الطبقة تدفقات المياه من تركيا قبل أن يدخل النهر إلى العراق. وعلى الرغم من توقيع العراق مذكرات تفاهم واتفاقيات فنية مع جيرانه، إلا أنها لا تزال محدودةً وغيرَ مُلزمةٍ وغيرَ مُطبّقةٍ. وتُواصل دول المنبع استغلال عدم الاستقرار السياسي في العراق وسوريا لتحقيق مكاسبها الخاصة. وتنتهك تركيا باستمرار اتفاقية المياه العابرة للحدود لعام ١٩٨٧ مع سوريا، حيث تُصرّف كميات أقل من الكمية المُتفق عليها.
واستجابةً لتفاقم نقص المياه في الأسابيع الأخيرة، أعلنت الحكومة العراقية عن تدابير تشمل بناء ١٠ سدود لحصاد مياه الأمطار في المناطق الصحراوية، ومنح مشروع تحلية مياه البحر في البصرة، الذي طال انتظاره، إلى ائتلاف صيني/عراقي. في حين أن كلا المشروعين يعالجان الاحتياجات العاجلة، إلا أن توقيتهما يعكس نمطًا مألوفًا، حيث لا يأتي العمل إلا عندما يصل الندرة إلى حد الأزمة. وغالبًا ما تعثرت المبادرات السابقة بهذا الحجم أو واجهت تأخيرات طويلة بسبب إخفاقات العراق التي تندرج ضمن ثلاثة أنماط مترابطة: الفساد، وانعدام استمرارية السياسات، والإهمال الصريح، وكلها تتفاقم بسبب الاستخدام غير الكفء للمياه.
لقد أدى الفساد والتدخل السياسي إلى توقف أو تعطيل مشاريع البنية التحتية الرئيسيةَ للمياه. ففي البصرة، واجهت مبادراتُ تحلية المياه الرئيسيةُ تأخيراتٍ متكررة، وتصاعدًا في التكاليف، ونزاعات حول العقود. وتشير التقارير المحلية إلى أن المحسوبية السياسية وعمليات المناقصات غير الشفافة قوضت تنفيذ المشروع. وقد أدى ذلك إلى اعتماد السكان على شبكات المياه المتدهورة وعرضتهم لنفس المخاطر التي تسببت في أزمة عام 2018، والتي أُدخل فيها مئات الآلاف إلى المستشفيات بسبب تلوث المياه. وبرزت مخاوف مماثلة بشأن الصفقات مع الشركات التركية، حيث ورد أن إطلاقات المياه ارتبطت بمنح عقود بناء السدود لشركات أنقرة، مما حوّل الموارد الوطنية إلى أوراق مساومة.
فعندما تبلغ الأزمات ذروتها، تُطلق بغداد مبادرات ارتجالية نادرًا ما تستمر. ففي عام ٢٠١٨، وبعد انخفاض منسوب المياه في نهر دجلة، عقد البرلمان جلسة طارئة وسعى إلى تأجيل ملء خزان إليسو؛ فتوقفت تركيا لفترة وجيزة، ثم استأنفت العمليات. ومؤخرًا، في تموز ٢٠٢٥، زار رئيس البرلمان محمود المشهداني أنقرة والتقى بالرئيس رجب طيب أردوغان، معلنًا عن وعد قصير الأجل بزيادة تدفقات المياه. ومع ذلك، حذّر الخبراء من أن هذا الترتيب من غير المرجح أن يستمر بعد آب، مما يعكس ميل العراق إلى ضمان المتابعة المؤسسية.
وخلال زيارة أردوغان لبغداد في نيسان 2024، وُقِّعت اتفاقيات اقتصادية وأمنية متعددة، ولكن لم يتم التوصل إلى اتفاق مُلزم لتقاسم المياه. وبحلول منتصف عام 2025، انخفضت مستويات المياه إلى أدنى مستوياتها منذ عقود. كما أن البنية التحتية للزراعة والري وحفظ المياه في العراق عالقة في دوامة من الفساد والإهمال.
ويعود جزء كبير من شبكة الري إلى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وتعمل بكفاءة تبلغ حوالي 60%، مع خسائر فادحة ناجمة عن الري بالفيضانات غير الكفء والقنوات غير المُبطَّنة. ولم تُؤدِّ سنوات من ارتفاع عائدات النفط إلى تحديث يُذكر.
وقد أدى الفساد وضعف الرقابة إلى عرقلة مشاريع إعادة التأهيل الممولة من الجهات المانحة: إذ تفشل الوزارات في التنسيق بشأن تقنيات توفير المياه، وتُحدِّد المحسوبية السياسية مسار الاستثمارات. وتُفقد هذه المعوقات الهيكلية العراق النفوذ أو المصداقية اللازمة للتفاوض بفعالية مع جيرانه.
كما يمكن لدول المنبع استغلال الانقسامات الداخلية في بغداد، لعلمها أن نخبتها السياسية منشغلة بمكاسب قصيرة الأجل وأجندات مجزأة بدلاً من بناء استراتيجية مائية متماسكة وطويلة الأجل.
هناك حاجة إذن إلى إصلاحات على المستويين المحلي والإقليمي. فعلى الصعيد المحلي، ينبغي على العراق إنشاء هيئة وطنية للدبلوماسية المائية بصلاحيات واضحة للتفاوض ومراقبة التدفقات والتنسيق بين الوزارات والمحافظات وإقليم كردستان. ويجب إعطاء الأولوية لإعادة تأهيل البنية التحتية، مع عمليات شراء شفافة للحد من الفساد وضمان التسليم.
كما يمكن لتحديث أنظمة الري، وخاصة في الزراعة، أن يقلل من الهدر ويحسن الكفاءة. وعلى الصعيد الإقليمي، ينبغي على العراق إشراك وسطاء دوليين موثوق بهم، مثل الأمم المتحدة أو المنظمات الإقليمية، لتسهيل إبرام اتفاقيات ملزمة مع تركيا وإيران. ذلك إن انضمام العراق في عام ٢٠٢٣ إلى اتفاقية الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا للمياه، مما يجعله أول دولة في الشرق الأوسط تنضم، يوفر إطارًا قانونيًا دوليًا يمكن الاستفادة منه في هذه المفاوضات.
خاصة وأن أزمة المياه في العراق تتجاوز كونها مجرد قضية بيئية، بل هي اختبارٌ للحوكمة الرشيدة. فقد أظهرت أزمة البصرة عام ٢٠١٨ والاحتجاجات التي تلتها كيف يمكن للإهمال البيئي أن يتفاقم بسرعة ليتحول إلى طوارئ صحية عامة وانعدام ثقة سياسية. وستُقاس تكلفة التقاعس ليس فقط بفقدان المياه، بل أيضًا بتآكل ثقة الجمهور وضعف الاستقرار الوطني. وتتطلب معالجة هذه الأزمة اتفاقيات مياه مُلزمة مع الدول المجاورة، وتنسيقًا مؤسسيًا أقوى، واستثمارًا في البنية التحتية لضمان أن تُحدد الحوكمة الرشيدة، لا الجغرافيا، مستقبل العراق المائي.










