هلسنكي/ يوسف أبو الفوز
من أهم العروض هذا العام، ونالت الاهتمام، كان أوبرا إليكترا، للموسيقار وقائد الأوركسترا الألماني الشهير ريتشارد شتراوس (1864- 1949)، الذي يعتبر من مؤسسي المدرسة الحديثة التي أثارت ضده المحافظين، لكونه مفكرًا حرًا، ويعتبر العديد من النقاد الموسيقيين أوبرا إليكترا، الحكاية الدموية، التي عرضت لأول مرة عام 1909، لا تزال عصرية بشكل مذهل، وتثير الإعجاب بقوة تأثيرها، إذ كانت حدثًا بارزًا في عصرها، ولا يزال مزيجها من الوحشية والحساسية لا يُضاهى. وإليكترا هي رابع أوبرا لشتراوس، أكثرها إثارةً للاضطراب، وصفت بأنها تميل لكسر قواعد التأليف السابقة، وكنا محظوظين في حضور العرض الثاني، بعد العرض الافتتاحي، وهناك، كما يشير موقع دار الأوبرا الفنلندية، أربعة عروض أخرى هذا العام. الموضوع الأساس الذي تتناوله أوبرا إليكترا، هو الرغبة في الانتقام والكراهية العمياء وقتل الأب، وهي ثيمة تناولتها أعمال فنية عديدة، من المسرحي اليوناني سوفوكليس، مرورًا بشكسبير، حتى ألكسندر دوماس وغيرهم، وتمتاز أوبرا إليكترا لريتشارد شتراوس، بالطابع التعبيري والغضب الشديد، فهي أوبرا جريمة، تنتهي بمقتل أشخاص بوحشية، مثيرة مشاعر متضاربة لدى الجمهور، فهي مُرعبة وآسرة في آنٍ واحد، فالجو الموسيقي مظلم، مشحون بالتوتر، يعكس الجنون، والهوس بالانتقام، الذي يسيطر على شخصية إليكترا. ويستلزم عرضها استخدام أوركسترا ضخمة، فالموسيقى تزداد حدة لحظة بلحظة، وتمتد إلى ساعة و45 دقيقة دون استراحة. كتب نص أوبرا إليكترا، الشاعر والروائي والكاتب المسرحي النمساوي فون هوفمانستال، (1874 ـ 1929)، الذي يعتبر واحدًا من أهم أدباء الحداثة للأدب الناطق بالألمانية في نهاية القرن التاسع عشر. مستلهمًا مسرحية تحمل الاسم نفسه كتبها سوفوكليس، حيث تنحدر شخصيات العمل الرئيسة من عائلات حاكمة يسود فيها جو القتل والانتقام. اشترك في العرض الباهر، الذي شاهدناه، نخبة من أفضل العازفين المنفردين في عالم الأوبرا، مع أوركسترا بأكثر من مئة عازف، مع استخدام مكثف للآلات النحاسية والإيقاعية لإبراز العنف الدرامي. سبق وقدم العرض آخر مرة في هلسنكي عام 2016 أمام جماهير غفيرة، ونال العديد من الجوائز، فهو آخر أعمال مخرج الأوبرا الأسطوري الفرنسي باتريس شيرو (1944-2013)، ويعاد حاليًا تقديمه في فنلندا، وفق ذات الخطة الإخراجية، بإشراف بيتر ماكلينتوك، مواليد كاليفورنيا، الذي قدمت أعماله على مختلف مسارح دول العالم، وهي المرة الحادية عشرة التي يُخرج فيها ماكلينتوك أوبرا إليكترا منذ عرضها الأول في فرنسا عام 2013 . في الأوبرا عاد والد إليكترا، أجاممنون من حرب طروادة، فقتل على يد والدة إليكترا، كليتمنسترا، وعشيقها ثم زوجها الجديد إيجيسثوس. وكان أجاممنون، بدوره سبق وقتل زوج كليتمنسترا الأول وطفلها منه، بل وضحّى بابنته إفيجينيا لأسباب سياسية. فأصبحت إليكترا وشقيقتها كريسوثيميس تفتقدان والدهما وتحزنان عليه. تحاول كريسوثيميس نسيان معاناة الماضي، لتعيش حياة عادية، لكن إليكترا لا تستطيع تجاوز صدمتها، فهي تُقدّس والدها، وترتبط به عاطفيًا وتجاهد لإخفاء ذلك وتتوق للانتقام من قاتليه. ولتحقيق خطتها، تحتاج إليكترا إلى مساعدة أختها وشقيقها أوريست، المفقود منذ زمن طويل بعد أن طُرد في صغره وتنتظر عودته كل يوم. ويصل غريبان إلى القصر يحملان خبر موت أخيها أوريست. تُدرك إليكترا، يائسةً، أن على الأختين الآن أن تنتقما لمقتل والدهما بأنفسهما. لكن الأخت كريسوثيميس تراجعت خوفًا ورفضت وغادرت، تاركة إليكترا لتتصرف بمفردها. أحد الغرباء مكث في القصر لبعض الوقت. مدعيًا أنه صديق لأوريست. تضغط عليه إليكترا بالأسئلة فتكتشف أن الغريب هو شقيقها أوريست، تظاهر بموته ليتسلل إلى القصر. فصارت إليكترا ممزقة بين الفرح والحزن. تعانق شقيقها المفقود منذ زمن، لكن حزن عزلتها التي اختارتها لا يزال قائمًا. وحانت لها لحظة الانتقام حين يدخل أوريست القصر، فتستمع إلى صراخ كليتمنسترا، ثم زوجها إيجيسثوس. في العرض الذي حضرناه أدت دور إليكترا السوبرانو الألمانية ريكاردا ميربث، التي عرفت كواحدة من الرائدات في مجالها، فهي مطلوبة في جميع أنحاء العالم كمؤدية فاخرة لفاغنر وشتراوس، وكانت في 2018، قدمت أول ظهور ناجح لها بدور إليكترا في الإنتاج البارز لباتريس شيرو على مسرح ميلانو. كانت إليكترا محور العرض الذي سيطرت فيه ريكاردا ميربث على خشبة المسرح، ولم تغادرها، فكانت تثور، تصدر همسًا ثم تصرخ مثل حيوان جريح منادية بالانتقام، ساعدتها قوتها التعبيرية الجامحة للتألق طوال العرض، ورغم أنها لم تكن نحيلة الجسد، لكنها امتازت برشاقة الحركة التي توافقت مع صوتها المذهل بشكل أبهر المشاهدين، وبعد نهاية العرض، وخلال تحية الجمهور، بدت ملامح وجهها الطفولية، عكس وجه القسوة والكراهية الذي شاهدناه خلال العرض. شخصية الأم كليتمنسترا، أدتها الفرنسية الميزو- سوبرانو صوفي كوخ، بدت شخصية مأسوية، فشلت في إصلاح علاقتها مع ابنتها إليكترا، وبدت مثيرة للشفقة، لكنها سرعان ما عادت متغطرسة، أمًا قاسية. صوت صوفي كوخ مع قوته، امتلك شحنات حزن تدفع للتعاطف، لكن ما أن تبدأ المواجهة مع إليكترا والصراخ على بعضهما البعض، في مشهد مثير للأعصاب، يثير المشاهد قدرتها على التحكم بالصوت وكأنه سيف يوجه الضربات. دور الشقيقة، كريسوثيميس، المترددة، الحالمة بحياة طبيعية، أن تلد أطفالًا وتعيش بهدوء، أدته بعاطفة كبيرة الليتوانية السوبرانو فيدا ميكنيفيتشيوتي، فبدت النقيض الأنثوي لإليكترا المتعطشة للدم والانتقام، فكان صوتها مشرقًا بجمال خاص. أما الشقيق أوريست فقد قدمه الفنان الفنلندي الباس باريتون سام تاسكينين، ورغم أن هذا الفنان، يعيش إشكالية كونه متحولًا جنسيًا، إلى امرأة، إلا أنه يؤدي أدواره الرجالية ببراعة ينافس بها المغنين الذكور، فكان مذهلًا في أداء دور المنتقم بصوته الدرامي العالي. تحرك العرض وسط ديكور من تصميم الفرنسي ريتشارد بيدوزي، امتاز بالأناقة والبساطة، فالممثلين يتحركون في باحة قصر بجدران عالية، محاطة بأبواب تؤدي إلى خارج وداخل أقسام القصر، فلم نر بذخًا ولا أثقالًا في التفاصيل، وظلت إليكترا المنبوذة من أمها تتحرك في قاعة الباحة مع الخدم، حتى تحقق انتقامها فتصعد السلم إلى أعلى الباحة تعبيرًا عن نجاحها في الارتقاء لتحقيق هدفها في الانتقام. كانت الأزياء من تصميم الفرنسية كارولين دي فيفايز أعطت للعرض أجواء معاصرة، ولم تسع لإعطائه أبعادًا تاريخية ما، ورغم أن المعروف عن تصاميمها كونها تمتاز بالتفاصيل الدقيقة فإن الأزياء في إليكترا اتسمت بالبساطة والأناقة وألوان قاتمة لمنح المشاهد بعدًا دراميًا أكبر، لكن يبدو أنها اغتنمت الفرصة لتقدم لنا الأم كليتمنسترا، ثم زوجها إيجيسثوس بأناقة ملوكية باردة من خلال الألوان المعتمة. وساهمت الإضاءة التي صممتها الفرنسية دومينيك بروجوير في إضفاء أجواء كئيبة، فالمكان على العموم بدا رماديًا مزرقًا يجعل الشخصيات تظهر وتختفي في أجواء من المؤامرة والترقب.
وأشاد هانو لينتو، القائد الرئيسي للأوبرا الوطنية الفنللندية، في حديثه لوسائل الإعلام، بالعمل قائلًا إن الفنانين المشتركين مثلوا أفضل ما يقدمه عالم الأوبرا في الوقت الحالي، ومن الرائع أن تتمكن الأوبرا الوطنية الفنلندية من المشاركة في إبداع هذا العمل الرائع.
في دار الأوبرا الفنلندية: أوبرا إليكترا.. مُرعبة وآسرة في آنٍ واحد

نشر في: 27 أكتوبر, 2025: 12:01 ص









