TOP

جريدة المدى > عام > جميل سعيد.. ناقدٌ أدبيٌ رائدٌ

جميل سعيد.. ناقدٌ أدبيٌ رائدٌ

نشر في: 27 أكتوبر, 2025: 12:03 ص

د. نادية هناوي
لا خلاف في أن دعائم نهوض النقد العراقي كان قد أسسها كتّاب أخلصوا جهدهم للنقد الأدبي عن استعداد ذاتي وتخصص معرفي. وكانوا يمتلكون القصدية التي هي الفاصل الجوهري بين بواكير شبه نقدية حصلت بسبب مشهدية أدبية صاعدة، وبين نشأة ارتكزت على مقومات حقيقية في مقدمتها امتلاك الأدوات التي بها يتمكن الناقد من الارتقاء بتجربته إلى مستوى يناسب الحراك الأدبي.
والباكورة التي فيها توفرت معايير تأسيس النقد الأدبي في العراق هي التي حمل لواءها ناقد رائد، هيأ نفسه أكاديميا وطور قابلياته تدريجيا. فاتخذ من النقد تخصصا، وأتى إليه مخلصا، مقدما العمل النقدي على أي عمل آخر أدبي أو غير أدبي، هو الدكتور جميل سعيد (1916-1990). فلقد امتلك، عن قصدية وتكريس معرفي واع، أدواتٍ استطاع بها أن يضع النقد العراقي على طريق منهجي، معه وُلِد هذا النقد ولادة طبيعية، مؤرخة بمطلع خمسينيات القرن العشرين. وكانت المنهجية وسيلة هذا الناقد في الارتقاء بالفعل النقدي من كونه عبارة عن خواطر وانطباعات ورؤى ذاتية وملاحظات مزاجية وتعليقات تجزيئية وعشوائية إلى أن يكون علما سواء على مستوى تحليل النصوص الأدبية أو مستوى انتقاء العينات وإصدار الأحكام التقديرية.
إن التوظيف المنهجي الذي اعتمده الدكتور جميل سعيد في نقد النصوص قام على دعامتين: الأولى هي الاستقراء المنهجي، والثانية هي تقديم النصوص على الأشخاص. وصحيح أن نازك الملائكة جايلت الناقد جميل سعيد، واستطاعت إثبات شخصيتها النقدية عبر سلسلة دراسات نشرتها في مجلتي الآداب والأديب اللبنانيتين، كشفت فيها عن تجربة رصينة إلا أنَّ نطاق دراساتها بقي محصورا في جنس الشعر دون السرد من ناحيتي التوظيف المنهجي والتخصص النظري، فضلا عن أن كتابها (قضايا الشعر المعاصر) -الذي غاير بمنهجيته ما كان قد عرفه النقد العربي من منهجيات آنذاك- جاء متأخرا بعقد تقريبا عن كتاب الدكتور جميل سعيد (نظرات في التيارات الأدبية الحديثة في العراق).
إن تأسيسية جميل سعيد للنقد العراقي، تأتي من اتساع أفقه المنهجي في الوصف والتفسير واجتراح المفاهيم. فكان ذلك كله سببا في اتساع نطاق تجربته، فاشتملت على تحقيق المخطوطات وقراءة الآثار الأدبية القديمة والحديثة وتوثيق التاريخ الأدبي والتأشير على الظواهر وتصحيح الأخطاء والحكم التقديري والموازنة والمقارنة.
ونذكر من كتبه في تحقيق المخطوطات التراثية (المرقوم في حلي المنظوم) و(الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور) لابن الأثير الجزري و(خريدة العصر) لعماد الأصبهاني. أما التآليف في الأدبين القديم والحديث فنذكر منها (الوصف في شعر العراق في القرنين الثالث والرابع) و(دروس في البلاغة وتطورها) و(العروبة في شعر الأبيوردي) و(معجم لغات القبائل والأمصار) و(نصوص النظرية النقدية عند العرب) و(النابغة الذبياني ناقدا) و(عمر بن الخطاب.. في توجيه للأدب والنقد الأدبي) و(مأساة فلسطين وأثرها في الشعر العراقي) و(الزهاوي وثورته في الجحيم) و(لغة الشعر العربي) وغير ذلك.
وبسبب إهمال التاريخ الأدبي في العراق التوثيق الأرشيفي للنقد والنقاد منذ منتصف القرن الماضي حتى اليوم، لا نجد لجميل سعيد ذكرا في الموسوعة الرقمية الحرة «الويكيبديا». وكذلك لا نجد تعريفا بسيرته على شبكة الإنترنت سوى موضعين وردت فيهما معلومات مبتسرة عن حياته ومؤلفاته التي هي بالمجموع نادرة الحصول. ويتقارب هذان الموضعان في إدراج مسرد سيري للدكتور جميل سعيد: الأول هو موقع المجمع العلمي العراقي والآخر موقع موسوعة التراجم والأعلام. وفيهما ورد أن اسم الناقد الكامل هو جميل سعيد آل ملا إبراهيم ولد في مدينة عانة بالأنبار عام 1916 ونال البكالوريوس بجامعة فؤاد الأول في القاهرة عام 1943 ثم حصل عام 1945 على الماجستير من الجامعة نفسها ببحثه الموسوم (تطور الخمريات في الشعر العربي من العصر الجاهلي حتى عصر أبي نواس) ثم نال عام 1947 الدكتوراه من جامعة القاهرة عن بحثه الموسوم (ديوان الوزير محمد بن عبد الملك الزيات) مارس التدريس في دار المعلمين العالية وكلية الآداب وتولى منصب العميد فيها وفي كلية الشريعة وانتخب عضوا في المجمع العلمي العراقي عام 1965 وكان يتقن الإنكليزية، توفي عام 1990.
وعلى الرغم من ذلك، فإن كتابه (نظرات في التيارات الأدبية الحديثة في العراق) عينة كافية للتدليل على ما لهذا الناقد من تجربة راسخة، أسست لمعمار معرفي، ستتضح أبعاده في ما سيبنيه عليه النقاد العراقيون من إنجازات وعطاءات.
ولقد صدر هذا الكتاب مطلع خمسينيات القرن العشرين، وفيه قدّم د. جميل سعيد عطاء نوعيا، دلَّ على تجربة غنية في النقد، اتضحت في تشخيصاته الفنية لما عرفه الأدب العراقي آنذاك من توجهات وسمات أطلق عليها اسم (التيارات). واعتمد في ذلك على أدبيات النقد العربي القديم جنبا إلى جنب كشوفات النقد الغربي الحديثة.
ولقد نأى د. سعيد بهذا الجمع بين التراث والمعاصرة عن الوقوع في ما وقع فيه مجايلوه وهو مناصرة التراث حدّ التطرف أو محاباة المعاصرة والتنكر للتراث حدّ التضاد. ورهانه في ذلك هو وعيه النقدي الذي استمد مقوماته من دراسته الأكاديمية المتخصصة في التراث النقدي العربي فضلا عما لديه من استعدادات فطرية منحته ذائقة أصيلة وحسا جماليا راقيا. وبسبب هذا كله توسَّعت تجربته النقدية لتشمل أجناس الأدب المختلفة. فلم يقتصر على نقد القصة كما حصل مع الناقد الأستاذ عبد القادر حسن أمين، ولا التزم بنقد الشعر كما فعلت السيدة نازك الملائكة ولا ارتهن بمنهجية مقارنة على شاكلة ما تخصص فيه الدكتور داود سلوم، ولا آثر اللامنهجية كما ذهب إلى ذلك الدكتور علي جواد الطاهر.
وما يميز نقود د. جميل سعيد أنها متزنة في اهتمامها بأدباء النهضة وترحيبها بأدباء وشعراء حركة الشعر الحر الذين كانوا وقتذاك شبابا. وكثيرة هي أقواله في هذا الصدد وهي تكشف عن التزام واضح بمبدأ الأدب للمجتمع، من قبيل قوله: (رأيت الشعراء الشبان يضيقون ببحور الشعر العربي وقوافيه بشكلها المعروف ويحاولون التحرر منها إلى الأخذ بما هو معروف في الشعر الغربي من تنوع في البحور والقوافي.. يسرني أنني رأيت شبابا في هذه الحقبة قد بدأوا يهجرون التقليد وينزعون إلى الاستقلال فيما يكتبون من موضوعات وقد فتحوا عيونهم على نقائصنا الاجتماعية وهي كثيرة واتجهوا إليها يعالجونها بقلوبهم وعقولهم وحسبنا هذا بداية نهضة أدبية كبيرة نرجو أن تلوح بشائرها في المستقبل القريب.) أو قوله: (طرح الشبان البحور والقوافي ومِمَّنْ نظم به بدر شاكر السياب وعبد الوهاب ونازك وبلند وغيرهم.. أكثرت منه نازك في ديوانها «شظايا ورماد» وقدمت للديوان بمقدمة طويلة، أشادت بالشعر الحر وحملت على البحور والقوافي. ورددت بعض ما أشار إليه الأستاذ ميخائيل نعيمة من بعيد.).
إنَّ تجربة الدكتور جميل سعيد النقدية تجربة أصيلة، ظل الاتزان سمة ملازمة لها، لم يحد عنها طوال مسيرته الأكاديمية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram