علي حسين
صبيحة كل يوم يجد المواطن العراقي المسكين نفسه محاصرا بأخبار الصراع على السلطة، بين الذين يجلسون على كراسي السلطة.. حالة غريبة وعجيبة. هذا المواطن بعد تجربة مريرة لن يصدق أكذوبة أن أشخاصا خدموا في بلاط الطائفية منذ عام 2003 يستطيعون أن يقدموا له نظاما سياسيا معافى يكون شعاره الوطن للجميع. أريد لهذا المواطن أن يعيش مخدوعا، يدمن على متابعة تغريدات عالية نصيف التي تبشرنا فيها كل يوم بأن ننام ملء جفوننا عن شواردها، ما دام “المنصل آراس حبيب” حارسا أمينا على راحتنا ومستقبلنا، مع الاعتذار لعمنا المتنبي الذي دائما ما أحشره مع قامات “ديمقراطية” من عينة عزت الشابندر ورفيقه في النضال مشعان الجبوري. ولهذا اسمحوا لي أن أغادر عالم الصفقات، وأكتب عن حدث ثقافي مهم، وأعني به “ملتقى ومعرض الموصل الأول للكتاب” الذي يقام هذه الأيام.
فأنا أنتمي إلى قوم لا يمكنهم تخيل عالم لم تظهر فيه الكتب التي سطرها مجموعة من الأحرار علموا البشرية قيمة وأهمية الحياة، لكني بالأمس وأنا أتصفح مواقع الصحف ووكالات الأنباء شعرت بأن كاتبا مثل حالي لا يمكن له أن يترك حفلات صواريخ الكاتيوشا التي تقع على رؤوس العراقيين، ويذهب ليحدث القراء عن أفلاطون الذي ظل يصر على أن تعاسة البلدان لا يمكن أن تزول ما لم يتمتع حكامها بفضيلة التعلم: “إن طلب العلم شرط لمن يتقلد زمام الحكم، والسبب هو ما يتميز به الحاكم المتعلم من حكمة وصدق”.
أنظر إلى الكتب التي توزعت بين أروقة جامعة الموصل العريقة، وأسرح مع العراق الذي يراد له أن يعيش في عصور الظلام، العراق الذي كان فيه الموصلي عبد الغني الملاح يقرع عميد الأدب طه حسين الحجة بالحجة، فيما الفتاة “المصلاوية” تسحر جميع العراقيين كلما صدح صوتها بأغنية “جوز منهم لا تعاتبهم بعد”، في الوقت الذي يقف فيه السياسي الشاب محمد حديد وسط البرلمان يطالب بصناعة عراقية، وفكر عراقي، ووطنية عراقية خالصة لأرض الرافدين، ويتغنى عثمان الموصلي بالموشحات التي أدهشت سيد درويش، فيما عمارات زها حديد تتوزع بين بلدان العالم، بعد أن طاف ابن بلدتها يونس بحري في أرجاء المعمورة.
دائما كنت أسأل نفسي: ترى كيف سيكون شكل العالم لو لم يكتب فيه ديكنز روايته “الآمال العظيمة”، ولم يحول فيه المتنبي الشعر إلى نصوص في الحكم، ولم يعلمنا عمر بن أبي ربيعة أن مديح النساء أبقى أثرا من مديح كل الحكام؟ هل يمكن أن نتخيل بريطانيا من دون سؤال هاملت الأزلي: أكون أو لا أكون؟ ماذا يبقى من انقلابات أمريكا اللاتينية غير ذكرى حكايات يوسا وساراماغو وإيزابيل أللندي ومعلمها ماركيز؟ ماذا يبقى من أمريكا لو لم يكتب لها همنغواي “الشيخ والبحر”؟
أعطتنا الكتب المتعة ونورت عقولنا، وحولت لنا الأرض إلى قرية واحدة قبل أن يكتشف الأمر منظرو العولمة، كتب زودنا أصحابها بالحكمة، ومؤرخون حفظوا لنا حكايات التاريخ وعبره، وشعراء صنعوا لنا أحلاما وآمالا وعوالم جميلة، كتب ندين لها بجمال الحياة.









