TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > النظام الاقتصادي الرأسمالي.. إلى أين؟

النظام الاقتصادي الرأسمالي.. إلى أين؟

نشر في: 30 أكتوبر, 2025: 12:02 ص

فراس ناجي

رغم انهيار المعسكر الاشتراكي وتبنّي معظم دول العالم للنظام الرأسمالي، فإن هذا النظام لا يزال يعيش أزمة بنيوية عميقة. فالدول الغربية المتقدمة يتعمق فيها الانقسام الاجتماعي وفقدان الثقة بالمؤسسات؛ في حين دول مثل بنغلادش والنيبال وإندونيسيا والمغرب، وبمعدلات نمو مرتفعة للناتج المحلي الإجمالي GDP، تتزايد فيها موجات الاحتجاجات الشعبية التي أطاحت بحكوماتها أو هددت أنظمتها السياسية. أمّا الصين، فقد نجحت في تحقيق نموّ متوازن واستقرار اجتماعي لافت. المفارقة هنا ليست في الأرقام، بل في جوهر النظام نفسه: كيف يمكن أن يكون الاقتصاد قويًا، والمجتمع في حالة اضطراب متصاعد؟
في الولايات المتحدة، تشير المؤشرات الاقتصادية منذ عام 2021 إلى اقتصاد متماسك ظاهريًا: نموّ بنحو 3.5%، بطالة عند 4%، وتضخم متراجع إلى حدود 3%. لكن خلف هذه الأرقام تكمن حقيقة مغايرة؛ فستون بالمئة من العاملين غير قادرين على الادخار أو تغطية حالات الطوارئ، وقرابة 12% من السكان يعيشون تحت خط الفقر. أمّا التعليم الجامعي فأصبح عبئًا ماليًا يتطلب قروضًا طويلة الأمد، فيما يفتقر أكثر من ثلاثين مليون شخص إلى التأمين الصحي. حتى السكن، الذي كان عماد الطبقة الوسطى، أصبح حلمًا بعيد المنال في المدن الكبرى.
هذا التدهور المعيشي ترافقَ مع تراجع الثقة بالنظام السياسي، إذ يشعر ملايين الأمريكيين بأن دولتهم لم تعد تمثلهم. وتحوّل الإحباط الاجتماعي إلى انقسام هويّاتي عميق تغذّيه الشعبوية، كما تجلّى في صعود تيار “لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا” وإعادة انتخاب الرئيس ترامب بنزعاته الاستبدادية وتجاوز سلطاته الدستورية. وقد وصف ستيف بانون، أحد أبرز منظّري هذا التيار، الأزمة بأنها لحظة شبيهة بما قبل الحرب الأهلية، محذرًا من “ثورة فرنسية” في أمريكا إذا لم يتم معالجة أسباب الأزمة الاقتصادية.
غير أن جذور هذه الأزمة أعمق من السياسات الراهنة أو من فشل الإدارات المتعاقبة؛ إنها نتاج دورة تاريخية طويلة للنظام الرأسمالي نفسه. فالرأسمالية، بوصفها نظامًا ديناميكيًا، تتحرك في مسار دائري يبدأ بالإنتاج ثمّ الاحتكار والريع، وتنتهي بانهيار النظام المالي كما حدث في 1929 و2008.
في بداياتها، كانت الرأسمالية الكلاسيكية نظامًا إنتاجيًا قائمًا على العمل كمصدر للقيمة، بينما عُدَّ الريع والاحتكار عوائق للاستثمارات الإنتاجية، فكان الربح مشروطًا بالإنتاج الفعلي لا بالمضاربة. غير أن التناقض بين الرأسمال الصناعي والرأسمال المالي ظهر سريعًا، وبتنظير من المدرسة النيوكلاسيكية التي ألغت التمييز بين الربح المنتج والربح الريعي أو المالي، تحالفت النخب المالية مع الطبقة السياسية للانقلاب على الرأسمالية المنتجة. فأُنشئت البنوك المركزية الخاصة للتحكم في عرض النقود، ووُضعت السياسات الاقتصادية لضمان خفض الضرائب على الأرباح وشرعنة الاحتكار.
فانتقل مركز الثقل من الصناعة إلى المال، ومن الإنتاج إلى التلاعب بالأدوات المالية والاحتكارية. بهذا التحول، انقطعت العلاقة بين الربح والعمل، وأصبح تراكم الثروة هدفًا بذاته، بصرف النظر عن نتائجه الاجتماعية. بلغ هذا المسار ذروته في الكساد العظيم عام 1929، حين انفجرت فقاعة المضاربة في البورصة، فانهارت البنوك وتلاشت المدخرات وتفككت الطبقة الوسطى. ولولا تدخل الدولة عبر “الصفقة الجديدة” التي أطلقها الرئيس فرانكلين روزفلت في 1933، لربما سقط النظام تحت ضغط الغضب الشعبي.
شكّلت “الصفقة الجديدة” تسوية تاريخية: الدولة تنظم السوق وتحمي المجتمع من الإفلاس الجماعي، ورأس المال يقبل بالضرائب والقيود مقابل بيئة مستقرة للنمو، والعمال يقبلون بالنظام الرأسمالي مقابل ضمانات الرفاه والأجور العادلة. ومن رحم تلك التسوية وُلدت دولة الرفاه الاجتماعي بعد الحرب العالمية الثانية، التي حافظت لعقود على توازن دقيق بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. أمّا النخب المالية، فقد تكيفت مع هذا النظام الرأسمالي “المنضبط”.
لكن هذا التوازن لم يدم طويلًا. فكما انقلبت النيوكلاسيكية في القرن التاسع عشر على الرأسمالية الإنتاجية، انقلبت النيوليبرالية منذ السبعينات على دولة الرفاه. ومعها بدأت دورة جديدة من التوحش الرأسمالي تحت شعارات الحرية الفردية والسوق المفتوحة. في تلك المرحلة، أعادت النخب المالية بناء خطاب فكري وإعلامي ربط بين حرية السوق والحرية الإنسانية، وشيطنت دور الدولة باعتباره تدخّلًا في الحرية. فتحوّل رجال الأعمال إلى روّاد التقدم، بينما صُوِّرت الضرائب والضوابط القانونية كعقبة أمام الاستثمار الذي يخلق فرص العمل. وبالتوازي، تمّ تفكيك القيود القانونية التي كانت تحد من النفوذ السياسي لرأس المال، فصار المال يصنع القوانين ويموّل الحملات الانتخابية ويحدّد أولويات الدولة.
في عهد رونالد ريغان في الثمانينات، اكتملت الثورة النيوليبرالية: تخفيضات ضخمة في الضرائب على الأثرياء، خصخصة واسعة للخدمات العامة، وتحرير شامل للأسواق المالية. ومع العولمة، هاجرت الصناعات إلى دول منخفضة التكلفة، ففقدت أمريكا ملايين الوظائف الإنتاجية، بينما تضاعفت أرباح الشركات الكبرى. تحوّل الاقتصاد إلى اقتصاد تمويل ومضاربة، وتآكلت ركائز دولة الرفاه، ليتحوّل النمو الاقتصادي إلى ظاهرة رقمية لا تنعكس على حياة الناس.
استمر هذا المسار حتى الأزمة المالية في 2008، التي كانت متشابهة بنيويًا مع انهيار 1929، فكلتاهما نتجتا من سيطرة المال على السياسة وهيمنة الاقتصاد المالي على الاقتصاد الإنتاجي. لكن نتائجهما التاريخية جاءت متباينة، فالأولى أفضت إلى الصفقة الجديدة وبناء دولة الرفاه، بينما الثانية أنتجت المزيد من التوحش الرأسمالي. فبدل إعادة هيكلة النظام، تمّ إنقاذ المصارف الكبرى على حساب دافعي الضرائب، وازداد تمركز الثروة بيد أقل من 1% من السكان. وفي الوقت نفسه تراجعت الطبقة الوسطى، وحلّت الانقسامات الثقافية والعرقية والدينية محل الصراع الطبقي، فتحولت الأزمة إلى صراع هويّاتي وصعود للفاشية الجديدة.
فاليوم لم يعد بالإمكان ترميم النظام عبر أدواته القديمة، لأن الاقتصاد لم يعد إنتاجيًا بل أصبح مثقلًا بالديون، والمجتمع لم يعد طبقيًا، والدولة لم تعد بهوية قومية موحدة بل منقسمة ثقافيًا. إن ما نشهده اليوم ليس مجرد ركود اقتصادي، بل تحوّل حضاري يعلن نهاية دورة كاملة من التاريخ الرأسمالي الغربي. وقد لا تأتي بعده “صفقة جديدة” بل نظام جديد بالكامل، ربما أكثر استبدادًا أو أكثر تفتتًا، يعيد تعريف الديمقراطية نفسها في عصر ما بعد الرأسمالية الغربية.
على الجانب الآخر من العالم، تظهر الصين كاستثناء لافت في المسار الرأسمالي العالمي. فمنذ انفتاحها الاقتصادي في أواخر السبعينات، تبنّت آليات السوق ولكن دون التخلي عن سيطرة الدولة على رأس المال. سمحت بتراكم الثروة، لكنها لم تسمح بتحوّل الأثرياء إلى قوة سياسية مستقلة كما حدث في الغرب. فالمسار الاقتصادي هناك ظلّ إنتاجيًا، مرتبطًا بالتصنيع والتكنولوجيا والبنية التحتية، لا بالمضاربة والريع.
هذا التوازن بين السوق والدولة هو ما منح الصين استقرارها النسبي وسط العواصف المالية العالمية. فحين انهارت البورصات الغربية عام 2008، كانت الصين تواصل نموّها عبر الاستثمار الفعلي في الاقتصاد الحقيقي. كما أن طريقة حساب الناتج المحلي لديها أكثر واقعية من النموذج النيوليبرالي الذي يضخّم الناتج الغربي عبر احتساب الأرباح الريعية والمضاربات المالية كأنها إنتاج. لذلك، فإن النموّ الاقتصادي في الصين يعكس زيادة فعلية في الإنتاج المادي، بينما في أمريكا يعكس تضخّمًا في أسعار الأسهم والعقارات.
أمّا على الصعيد الدولي، فقد فرضت النيوليبرالية منذ السبعينات هيمنتها على المؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد والبنك الدولي، وبعد ذلك على منظمة التجارة العالمية ومؤسسات الأمم المتحدة الاقتصادية؛ فعمّمت منطقها الريعي على العالم كله. فأصبح هناك تضخّم وهمي للناتج العالمي يعكس تضخّم أسعار الأصول والخدمات المالية، لا زيادة الإنتاج الحقيقي العالمي.
لقد أصبحت الإحصاءات الاقتصادية أداة أيديولوجية لخدمة تدفقات رأس المال العالمي، وشرعنة توسيع سلطة رأس المال المالي على حساب الدولة، فتُخفي الواقع بدل أن تكشفه، وترتفع مؤشرات النمو بينما يتدهور المستوى المعيشي الفعلي للمجتمعات. وهذا يفسر كيف يمكن أن تتزامن “الازدهارات” الرقمية مع موجات الاحتجاج الشعبي في دول عدة من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
من الصعب التنبؤ بما سيأتي بعد هذه الدورة، لكن المؤكد أن الرأسمالية الغربية وصلت إلى حدودها التاريخية. فكما أن الإقطاع لم يسقط في يوم واحد بل تفكك ببطء تحت وطأة تناقضاته، كذلك تتفكك الرأسمالية المتوحشة اليوم تحت ثقل تناقضاتها وأزماتها الذاتية. فالحل سيكون حضاريًا أكثر منه اقتصاديًا، يبحث فيه العالم عن معادلة بديلة تُوازِن بين الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، بين الحرية والمساواة، بين رفاهية الإنسان والحفاظ على البيئة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. ابو كرم

    منذ 5 أيام

    السردالذي اتبعه الكاتب صوّرلي القرن العشرين كفلم توثيقي يعرض على ناشيونال جيوغرافي،سهل الفهم وجميل العرض،كما ابدع في نقل الصورة والأرقام الحقيقية للاحصائيات،هذا ان دل فيدل على المجهود الكبير الذي اتبعه الكاتب في استخلاص الحقائق والأرقام الدقيقة والتواريخ

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram