TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كيف سحق البرابرة تمثال مصطفى جواد؟

كيف سحق البرابرة تمثال مصطفى جواد؟

نشر في: 2 نوفمبر, 2025: 12:02 ص

إسماعيل نوري الربيعي

يا لها من مأساة سريالية، يا لها من كوميديا سوداء تنسج خيوطها على صدر مدينة الخالص، ديلتاوة القديمة! لقد شهدت مدينتنا العريقة فعلًا همجيًا، لا يختلف كثيرًا عن اجتياحات هولاكو التتري، حين استباح الغزاة كل حجر وكل رمز، وتركوا الخراب نصًّا راسخا في ذاكرة الزمن. تمثال عالم اللغة والمؤرخ الجليل المرحوم مصطفى جواد، صاحب «قل ولاتقل»، لم يسقط فحسب، بل سُحق، كأن المدينة صارت ملعبًا لتجارب وحشية، وأعادت صياغة البشاعة عبر لغة الجسد الوحشي: كل ارتطام حجر، كل خدش على المعدن، كل اهتزاز في الهواء كان جملةً من رسائل القوة البربرية. إن التمثال، في صمته المهيب، كان يحمل خطابًا مزدوجًا: خطاب الماضي، حيث كانت ديلتاوة تمثل ذاكرة حضارية عريقة، وخطاب الحاضر، الذي يحتاج إلى وعي جماعي وفكري لحماية الرموز. الإزالة بهذه الطريقة ليست مجرد فعل مادي، بل نص ثقافي مضاد، خطاب عدائي يصرخ في وجه الزمن: «التاريخ لا قيمة له، والرموز ليست محمية، والفكر مجرد لعبة للجثث». كل حركة قام بها الفاعلون كانت استعارة بصرية عن الغوغائية: اليد التي سحبت التمثال كانت شبه مخلب تتارٍ ينهش اللحم الرمزي للمدينة؛ الصوت الناتج عن ارتطام المعدن بالأرض كان صدى هولاكيًا للخراب، صدى يصرخ: «هذا ما يحدث للرموز حين يتجاوز العنف حدوده!». المأساة هنا تتجلى في أعتى صورها: كل فعل جسدي يخلق نصًا مضادًا، نصًا يحكي عن التفاهة، عن القوة المطلقة، عن العبثية التي تنتصر على المعنى.
وإذا نظرنا إلى المشهد من زاوية السريالية، نجد المدينة تتحول إلى لوحة مشوشة، حيث تتصارع القوة والرمز، الصمت والفعل، المعرفة والبربرية. كل حجر من التمثال، كل شظية معدن، كل طنين ارتداد، هو استعارة لعنف يبتلع التاريخ، ولشهوة تدمير تهدد الذكريات الجماعية. التمثال لم يُسقط فقط، بل هُشم، وكأن الجناة أرادوا أن يبعثروا كل معانيه في الهواء، ليصنعوا منه غبارًا سيميائيًا يعلو فوق صرخة المدينة. وفي هذه المرثية، يتضح أن المشهد ليس مجرد إزالة تمثال، بل ملحمة هولاكية: المدينة تصبح ساحة معركة بين الفكرة والوحشية، بين العبقرية العلمية والبربرية الطاغية، بين الخطاب والمعنى، وبين اليد الحديدية التي تحكم بالقوة بدل العقل. كل حركة هي استعارة، كل ارتطام هو كلمة، وكل صمت بعد الخراب هو جملة، كلها نص واحد متشظٍ، نص يروي مأساة الفكر أمام الطغيان.
يمكننا قراءة الإزالة كخطاب متواصل: خطاب يعلو فوق الكلمات، ويستخدم الفعل الجسدي كلغة قاسية، لغة لا تفهمها إلا القوة، لغة تقول: "هنا، لا مكان للمعرفة، لا قيمة للرمز، كل ما تظنه خالدًا يمكن سحقه". التمثال المزال كان يمثل حماية لفظية ورمزية للمدينة، كان صدى للوعي الجماعي، ومرآة لتاريخ طويل من الفكر واللغة. والآن، صار غياب التمثال خطابًا جديدًا، خطابًا عن التفاهة، عن الجهل، وعن قدرة الوحشية على خلق نصوصها الخاصة. لكن السخرية الكبرى تكمن في أن هذا الفعل العنيف، رغم بشاعته، لا يستطيع محو أثر الفكرة. التمثال، حتى وهو محطم، يواصل إرسال إشارات تداولية: إشارات المقاومة، إشارات التحدي، إشارات أن الفكر أقوى من الحجر، وأبقى من المعدن، وأن الكلمات التي كتبها مصطفى جواد، سواء كانت شفوية أو نصية، لا يمكن لأي فعل هولاكي أن يمحوها. كل خدش، كل ضربة، كل ارتطام، هو استعارة لعنف يحاول محو المعنى، لكنه في النهاية يعيد تأكيد وجوده. إن هذا المشهد، بهذه السريالية الهولاكية، يخلق نصًا مزدوجًا: نص الخراب الذي يكتب بالعنف، ونص المقاومة الذي يكتب بالفكر. المدينة، كما لو كانت قارئةً سريعة، تفهم كل الإشارات، تدرك أن القوة لا يمكن أن تمحو الوعي، وأن كل فعل عنيف يخلق نصًا مضادًا، نصًا يحمل صدى التاريخ والمعنى. إن المرثية، هنا، إنما هي صرخة مزدوجة: صرخة غضب على البربرية، وصرخة إعجاب بصمود الفكر. ولا ننسى أن السخرية في هذا الحدث لا تقف عند مجرد العبثية، بل تتعداها إلى التشبيه الهولاكي: حيث اليد التي طرحت التمثال هي يد تتار، العيون التي شاهدت الصدمة هي أعين البربر، الأرض التي استقبلت المعدن هي ساحة الغزو، وكل حجر ارتطم بالأرض هو لغم هولاكي متجدد، يعلّم المدينة درسًا قاسيًا عن هشاشة الرموز أمام القوة الفجّة.
المرثية هنا أكثر من مجرد حزن، إنها هجاء صريح، استنكار بائن، بيان ثقافي صاخب، نص يسخر من العبثية، ويصف البربرية بأقصى درجاتها. المرثية تكشف أن هذا النص لا يقتصر على الكلمات، بل يتجاوزها ليشمل كل فعل وكل أثر، كل صمت وكل صوت ارتداد، ليصبح نصًا حيًا، نصًا صاخبًا، نصًا مرثيًا وساخراً في آن واحد. إن المدينة، رغم الألم، تواصل قراءة هذا النص السريالي: المدينة تدرك أن المعرفة لا تموت، وأن الرموز، رغم سقوطها المادي، تظل حية في الذاكرة وفي التداول. كل ارتطام، كل خدش، كل حجر محطم، هو كلمة في نص صاخب عن المقاومة الثقافية والفكرية. إن المرثية الساخرة لا تنتهي عند هذا الحد، بل تستمر لتعلن للعالم: "لا يمكن لمحاولة همجية أن تمحو إرث الفكر، لا يمكن للقوة الجسدية أن تسحق معنى المعرفة، ولا يمكن للعبثية أن تُطفئ صرخة التاريخ».
وهكذا، يظل تمثال مصطفى جواد، حتى وهو غائب جسديًا، حاضرًا في ذاكرة المدينة، حاضرًا في كل شيء، حاضرًا في كل صرخة استنكار، حاضرًا في كل نص هجائي ساخٍر يكتب عن هذا الفعل الهولاكي. فلتكن هذه المرثية شهادة على ما حدث، وعلى صمود الفكر، وعلى قدرة المدينة على إعادة كتابة نصها الثقافي والفكري، رغم كل العبث والوحشية. في النهاية، نرفع هذه المرثية، المرثية الساخرة، الهولاكية، الصاخبة، التي تجمع بين الهلع والغضب، لتكون شهادة على ما ارتكب من جريمة، وعلى قدرة الفكر على البقاء، وعلى أن الرموز الحقيقية لا يمكن لأي قوة بشرية أن تمحوها. تمثال مصطفى جواد لم يسقط، بل تحول إلى نص متداول، إلى خطاب لا يمكن تجاهله، إلى صرخة في وجه كل بربرية معاصرة: "لن تُمحى المعرفة، ولن يُسحق الفكر، ولن تُهزم الرموز مهما كان حجم الوحشية».

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram