TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: غطرسةٌ واحدةٌ واستعراضاتٌ متعدّدة

قناديل: غطرسةٌ واحدةٌ واستعراضاتٌ متعدّدة

نشر في: 2 نوفمبر, 2025: 12:04 ص

 لطفية الدليمي

تجربة قراءة كتاب (في المرض وفي القوّة In Sickness and in Power) حافلةٌ بضروب الإمتاع والإثارة والفائدة. مؤلف هذا الكتاب (وهو مترجم إلى العربية) هو ديفيد أوين، وزير خارجية بريطاني أسبق وطبيب إختصاص في الأمراض العصبية. تكنوقراطي حقيقي بخبرة مكثفة. الكتاب يتحدث عن الإعتلالات العصبية الناتجة عن طول ممارسة السلطة. فذلك يقودُ إلى إعتلال دماغي يشبه أنماطاً مرضية عضوية مشخّصة، وأهمُّ مظاهر هذا الإعتلال هو ما صاغه أوين في عبارة متلازمة الغطرسة Hubris Syndrome. قراءة هذا الكتاب تكشف لنا الكثير عن الأعطاب الروحية والنفسية والعقلية التي عاناها رؤساء دول وحكومات..
المثير في أمر الكتاب أنّ غطرسة الغربيين في السلطة ستبدو هينة لو وُضِعت موضع المقارنة مع (غطرسات) شتى تمارسها دوائر مختلفة من هياكل السلطة العراقية، قديمها وحديثها، حدّ انّ المرء ليشعرُ أنّ هذه الغطرسة وراثة جينية تكسر كلّ اسباب الخلاف الآيديولوجي المعلن بين الأحزاب المتنازعة على السلطة. ثمّ أنّ غطرسة بعض القادة الغربيين تنحصر في طبقة الساسة الذين يتولّون مناصب تنفيذية؛ لكنّما الكثرة من الناس لا علاقة لها بالامر من قريب أو بعيد. أظنُّ أنّ أحد فضائل أنساق الحكم الغربية يكمن في انها لا ترغمُ المواطن على أن يكون عبداً اوتابعا لأيٍّ من السياسيين التنفيذيين حتى لو كانت الغطرسة موروثة في خلاياه . هناك قانون صارم وأعراف وأخلاقيات عمل قادرة على التأثير وصياغة شكل الحياة.
الحالُ عندنا أنّ الجميع يتشرّبون الغطرسة ويبقونها متّقدة في أرواحهم مثل نار خبيئة تنتظر من ينفخ فيها ليعلي لهيبها .لستُ هنا في معرض تسبيب الحالة؛ لكنّ الواقع يخبرنا أنّنا نشهدُ ألواناً من الغطرسة تتمايز عن بعضها تبعاً لموقع المتغطرس أو تبعيته للجهة التي يرى نفسه ممثلاً مخلصاً لها. ما يهم في الأمر وأظنّه ما يستوجبُ النظر والمساءلة هو شكلُ الغطرسة: علامتها الشاخصة أمام الجميع. أظنّ أنّ بمستطاعنا تشخيصَ نوعين من هذه الغطرسة: غطرسة خشنة مُعْلَنة وأخرى ناعمة تتخفّى وراء قناع الكلمات المصقولة بدبق الحلوى.
أما الغطرسة الخشنة فما أيسرها على التشخيص والفرز. يخاطب أحد المستضافين في ندوة تلفازية خصمه الآيديولوجي (هل تصدّق أنّكم ستأخذونها منّا؟ سنجعل الدم للخشوم بدل الرُكَب!!). هذا بعضُ ما يقولونه في العلن؛ فما عساه يقال في الدهاليز الخفية؟ صارت امثال هذه الندوات التلفازية ميدان غطرسة وسَفَهٍ بليد. مستضاف آخر يحكي عن الدّيْن العراقي الداخلي والخارجي ويستخدم مصطلحاً أجنبياً لا وجود له، ثمّ يستزيد في الثرثرة المالية والإقتصادية معللاً ذلك بأنّه نال درجة 100 في إمتحان الرياضيات في البكالوريا!!. هذه غطرسة لأنّه يستخفُّ بما يقول من تفاصيل ولا يرى ضرورة لمراجعته والتدقيق في صوابيته. لعلّه يقول في داخله (هؤلاء الذين أخاطبهم من يكونون؟ قل أيّ شيء لهم ولن يدققوا فيه لكسلهم وخمولهم). لو كان يحترم المشاهدين ما كان تجرّأ على الهذر بكلام رميم لا قيمة له. هاكم مثالاً آخر أعنف في غطرسته: يخبرُنا عضو في مجلس محافظة البصرة أنّ (المادون) لا ينبغي له في أيّ حال من الأحوال أن يقيّم (المافوق)، ويمضي في تسويغ رؤيته (ما بعد الحداثية!!) في الممارسة السياسية منطلقاً من أخلاقيات الممارسة العسكرية. هو يرى العراق معسكراً كبيراً، وحكّامُهُ ضباط برتب كبيرة، والسياسيون والجهاز التنفيذي خليط من ضبّاط برتب متفاوتة يعاونهم عرفاء وجنود. هل رأيتم نقيباً يقيّمُ عقيداً: هكذا يتساءل صاحب الرؤية الجديدة في السياسة. دققوا معي في مفرداته التي تشي بطبقية مقيتة: (مادون) و (مافوق). هل بعد هذا الإعلان الصارخ من غطرسة أشدّ قبحاً؟
استعراضاتُ الغطرسة في حياتنا لا تنتهي. الكلام والإدّعاء أيسرُ لدينا من شمّ الهواء. هي كلمات تقالُ وليس من حساب بعدها. ينبؤُنا وزير التعليم العالي مزهواً أنّ عدد البحوث الأكاديمية المنشورة منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى يومنا هذا بلغ حدود 182 ألفاً، ثمّ يردفُ بأنّ ثلثي هذه البحوث نُشرَ في عهده متولّياً لشؤون الوزارة. أهي لعبة أعداد؟ يبدو الأمر كمن يتفاخر بكثرة أولاده، وعندما تراهم على حقيقتهم ترى مجموعة من حفاة غاطسين في قعر الفقر والبؤس. من حقّنا -بل واجبنا- أن نتساءل: ما المعضلات العراقية المتوطّنة التي ساهمت في حلّها أو إيجاد مخارج معقولة لها هذه التلال المؤلفة من البحوث؟ نعرف البئر وغطاءه الاذي افترسه الصدأ، ونعرف من عيوب التعليم الجامعي العراقي ما يخجل منه المرء حتى لا يكاد يجرؤ على رفع رأسه.
الغطرسة تتبدّى في شكليْن: شكل خشن واضح مباشر، يسعى المتغطرس فيه لنقلنا إلى عصور المعارك البدائية الأولى حيث الغلبة للصوت العالي والسيوف المشرعة التي تنغرز عميقاً في الأبدان لتقطع الأيادي وتجزّ الرؤوس؛ أما الشكل الثاني فمتقنّع في عدم التحسّب من تبعات تمرير معلومات للمواطنين يعرف قائلها أنّها خاطئة أو كاذبة أو مبالغ فيها كثيراً أو تلتوي كما الأفعى في مواجهة الحقائق. التسويغات جاهزة ولا أيسر منها. إنّها غطرسة من يعرف أنْ لا مساءلة قاسية تنتظره.
يستحقّ الأمر كثيراً من التفكير: لماذا نحن متغطرسون؟ أظنّ أنّ تقصّي جذور هذه الموضوعة تستحقُّ مباحث معمّقة. ربما في الرؤية العمومية يمكنُ القول ابتداءً أنّ غطرستنا مستورثة في جزء منها من تقاليدنا التي تؤكّد على أنّنا الأفضل والأشجع والأكرم بين العالمين. ربما أيضاً نحن لم ننجح في بناء تقاليد مواطنة حقيقية؛ فكان لزاماً على الفرد أن يرتكن إلى قوته الشخصية في نيل حقوقه، وهذا ما دفعه دفعاً للشعور الموهوم بالخيلاء والغطرسة بسبب إعلاء شأن الميزات الشخصية قبالة سطوة القانون الذي يتساوى الجميع امامه اعتبارياً وقانونياً. نحن أيضاً لا نجتهد في خلق الثروة بل نتقاتل لنيل حصصنا الفردية والجماعاتية من النفط وحده، وهذا يستلزم الغطرسة في التمسّك بالحقوق (المشروعة!!) إزاء الآخرين. ثمّ هناك قائمة طويلة من التنازع والتشاحن حول مرويات التاريخ، ويكفي أن نشهد صراع الديكة في البرامج الحوارية الحالية (وبخاصة في موضوعة «الحاكمية» التي كانت اختراعاً مسجلاً بإسم الأخوان المسلمين ثم وظّفها الآخرون في مشاريعهم المطبوخة في مطابخ آيديولوجيا التنازع الطائفي) حتى نعرف كي الوضع الراهن كيفما كان.
في كتابه السيري الجميل (غصنٌ مُطعّمٌ في شجرة غريبة) يحكي الدكتور صلاح نيازي عن بواكير تجربته الشخصية مع الإنكليز عندما استأجر غرفة في منزل عائلة بريطانية بعدما غادر العراق أوائل ستينيات القرن الماضي. يقول أنّهم كانوا يندهشون لفرط القوّة والحسم والصرامة في مفرداتي العراقية، وكذلك لطبيعة سلوكي الذي تعبّرُ عنه كلماتي الصخرية. كانوا يرون الأمر غطرسة غير مناسبة أو متفقة مع السلوك الإنساني. يعقّب الدكتور نيازي أنّه عرف طبيعة ما شعروا به بعد عقود من العيش هناك، ويرى أنّهم كانوا على حق. هو يسوّغُ الأمر بأنّنا نتعامل مع الآخرين بلغة العضلات: كلماتنا صخرية قاسية حتى لو لم نشأ ذلك. هي بعضُ موروثاتنا التي نحتاج للفكاك من أسرها الى تدريب شاق وطويل يعجز عنه الكثيرون. الأهمّ من هذا التدريب هو تغيير النسق المعيشي والثقافي والحضاري، وهذا يبدو عملاً أقرب لمعجزة عسيرة التحقق في واقعنا الغارق في الرثاثة.
الغطرسة واحدة لكنّما استعراضاتها متعدّدة في العراق، وفسادُ المال المنهوب من النفط هو ما ينفخُ النار في غطرسة المتغطرسين. سيكون مشهداً كوميدياً-مأساوياً عندما نشهدُ خواء جيوبهم. سينكشفون على حقيقتهم بيّاعي كلامٍ لا أكثر من هذا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram