النجف / عبد الله علي العارضي
على ضفاف نهر الفرات في مناطق الكوفة والمشخاب التي يمرّ فيها، لم يعد صوت الشِّباك وهي تُسحب من الماء يحمل البهجة التي اعتادها الصيادون منذ عقود. فالمياه التي كانت تعجّ بالأسماك تحوّلت اليوم إلى مجرى ملوث بالكاد يحتضن بقايا الحياة، فيما تلاشت مهنة الصيد التي كانت عمادَ رزق مئات العائلات أمام مزيجٍ من الجفاف والتلوث والصيد الجائر.
من الوفرة إلى الندرة
يستذكر الصياد منتظر مهدي بحزنٍ سنوات الازدهار التي سبقت الكارثة، قائلًا لـ”المدى”:قب ل عشر سنوات كنا نصطاد خمسين كيلوغرامًا من السمك أو أكثر، أمّا اليوم فلا نحصل على شيء، الماء كلّه ملوث ومقطوع، ولم يعد هناك سمك. نحن عائلة صيادين منذ أيام جدّي وأبي، واليوم حتى ابني لم يعد يستطيع الاستمرار. نعمل من الصباح حتى الظهر بلا جدوى ولا نحصل على رزق.
ويضيف أن التلوث ازداد بشكلٍ كبير، وأدّى إلى اختفاء الأنواع الجيدة من الأسماك مثل الشبوط والكطان والبني، ولم تبقَ سوى أنواع قليلة مثل الشانك، فيما اضطر أغلب الصيادين إلى ترك المهنة بعد أن فقدت مردودها. ويقول منتظر بأسى: لا ماء ولا سمك والناس تعبت.
الصيد الكهربائي.. تهديد مستمر
من جهته، يصف الصياد جعفر الجبوري واقع نهر المشخاب، قائلًا: أنا حزين لحال الشطّ، فالأسماك لم تعد متوفرة كما كانت، والسبب الأكبر هو استمرار الصيد الكهربائي دون ردعٍ حقيقي. في الماضي كنا نصيد الشانك والحمري وأنواعًا أخرى، أمّا الآن فنقضي أسابيع دون أن نصيد شيئًا. أنزل مع ابن أخي كلّ يوم ونرمي الشِّباك أمام منزلنا، لكننا نعود خاليَي الأيدي بعد أن كان الصيد وفيرًا.
الصيد الكهربائي، بحسب الجبوري، “قضى على ما تبقّى من الحياة في النهر”، إذ يقتل الأسماك الصغيرة والكبيرة على حدّ سواء، ويمنع تكاثرها الطبيعي.
تحرّك أمني ورقابي مشترك
في ظلّ تزايد الشكاوى من الصيد الجائر، أعلنت قيادة شرطة محافظة النجف الأشرف تنفيذ حملة ميدانية في قاطع المشخاب، بالتنسيق مع قسم البيئة، لضبط الأدوات المستخدمة في الصيد الكهربائي.
وأكدت القيادة أن مفارز قسم النجدة النهرية تمكّنت، أثناء تأدية مهام الدوريات، من ضبط أجهزة معدّة للاستخدام في أعمال الصيد الجائر خلال عملية تفتيش على ضفاف النهر، وتم تسليمها إلى الجهات البيئية لاتخاذ الإجراءات القانونية الأصولية بحقّ المخالفين.
وقال مصدر أمني في قيادة الشرطة لـ”المدى” إن “العملية جاءت بناءً على معلومات دقيقة وردت من فرق المراقبة الميدانية حول نشاط بعض الصيادين باستخدام وسائل محظورة تضرّ بالبيئة المائية، وتم التحرّك الفوري لضبطهم قبل الشروع بالصيد”.
وشدّد المصدر على أن “القيادة ماضية في إجراءاتها للحدّ من التجاوزات البيئية بالتعاون مع دائرة البيئة والشرطة النهرية”، مضيفًا أن “من يثبت تورطه باستخدام الكهرباء أو الشِّباك المحظورة سيُحال إلى القضاء وفق القوانين البيئية النافذة”.
مدير بيئة النجف جمال عبد زيد أوضح في تصريحٍ اطّلعت عليه “المدى” أن دور المديرية رقابيّ بالدرجة الأساس، وقال: نوجّه الجهات المعنية لتطبيق الغرامات بحقّ المخالفين. الصيد بالتيار الكهربائي ممنوع قانونًا لأنه يضرّ بالبيئة، وكذلك الشِّباك ذات الفتحات الصغيرة. أبلغنا الشرطة النهرية بذلك ونسّقنا معها في اجتماعٍ خاص، وجرى خلاله التأكيد على منع الصيد أثناء موسم التكاثر حفاظًا على الثروة السمكية.
وبيّن عبد زيد أن الشرطة النهرية كثّفت دورياتها في أنهار المحافظة وأقضيتها (المشخاب، الكوفة، المناذرة، العباسية، الحرية، الحيدرية) لرصد عمليات الصيد الجائر ومحاسبة المخالفين، مؤكّدًا أن تقريرًا مفصلًا مدعَّمًا بالصور سيُرفع إلى وزارة البيئة.
أنواع انقرضت
الناشط البيئي زيد علي دعا من جانبه إلى تحرّكٍ عاجل من الجهات المختصة، قائلًا لـ”المدى”:
أدعو بيئة النجف إلى إعداد كشفٍ رسميّ بالكائنات المائية التي انقرضت من أنهار المحافظة نتيجة الصيد الجائر والتلوث. من المؤسف أن بعض الأنواع المحلية مثل الرفش الفراتي لم تعد موجودة نهائيًا في شواطئ المحافظة.
ويحذّر زيد من أن استمرار الإهمال سيقود إلى انقراض شبه تام للحياة المائية في الأنهر، مشدّدًا على ضرورة إطلاق برامج توعية للصيادين وتشديد العقوبات بحقّ من يستخدمون الكهرباء في الصيد.
هكذا يختصر الصيادون المشهد اليوم: نهرٌ بلا ماء، ومياهٌ بلا حياة، وصيادون بلا رزق. مهنة كانت ترمز إلى العطاء والصبر باتت تواجه مصيرًا محتومًا بفعل الإهمال والتلوث والجفاف. في نهر الكوفة لا تصطاد الشِّباك سوى الذكريات.










