TOP

جريدة المدى > عام > قصة قصـــيرة| المنقذ

قصة قصـــيرة| المنقذ

نشر في: 4 نوفمبر, 2025: 12:28 ص

فلاح الحســــن
تصفعُ حباتُ الثلجِ ناصعة البياض وجهه الأسمر بملامحه الجنوبية، تحملها ريحٌ باردة في يوم شتائي لا يختلفُ كثيراً عن سابقه. تَتَلاقف الأرضُ نتف الثلج المتساقطة، تتراكم فوق بعضها فتكسو كلَّ شيء، فتُصيِّرَه حقولاً بيضاء بَعد ان كانت مروجاً خضراء عامرة. زفيره المتسارع الخارج من أنفه العريض الذي يتوسط خديه وهو أبرز ما في وجهه، يتحول بسبب درجات الحرارة المنخفضة، إلى بخار بعد أنْ يتكثف وكأنه ابريق شاي فوق مدفأة في احدى قرى الجنوب البعيدة؛ حيث الطيور المحلقة في سماء الهور الذي يعشقه حدَّ الجنون. تتكون كراتٌ صغيرةٌ من الثلج تحت انفه، تقف على شعيرات شاربه الكثِّ فاحم السواد، يمسحها بين حين وآخر بكُمِّ معطفه الذي يفشل في أنْ يقيه البرد المفرط في قسوته على جلده الذي لم يعتد هذه الدرجات المنخفضة، فيخترق بسهولة ويسر السترة التي جاء بها من ذلك الشرق الموغل في البُعد والقِدم، معتقداً أنها أثقل ما يمكن أنْ يجده في بلده الأم. تَصفرُ رياحٌ باردةٌ في اذنيه العاريتين فَيُسرعُ الخطى الى سكنهِ في القسم الداخلي المخصص للطلبة. تتزحلق قدماه ليسقط على الجليد الذي تَكوّنَ ليلة الامس بعد أنْ ارتفعتْ درجاتُ الحرارةِ قليلاً فذاب الثلج المتراكم، لكنها انخفضت مجدداً لما دون الصفر المئوي فتكوَّن جليدٌ أملس صلب يختفي تحت نتف الثلج المتساقط منذ الصباح. لا يعرفُ كيف يسير على الجليد المغطى بالثلج، كان عليه أنْ لا يرفع قدميه أثناء السير ويحاول أنْ يدفعهما للأمام وأنْ يبقيهما تلامسان الأرض اثناء سيره، هذا ما أخبروه به لاحقاً.
ازدادتْ خشيته من السقوط المتكرر الذي قد يتسبب بكسرِ ذراعه، او أي جزء آخر من جسده الذي صقلته شمس الجنوب الحارقة أثناء عمله تحتها لساعات أيام الصيف الطويلة.
كان يعيشُ صراعاً بين رغبته في الركض نحو السكن هرباً من البرد الشديد ولينعم ببعض الدفء في غرفته، وبين مخافة السقوط ارضاً إذا زادَ من سرعته لعدم قدرته على السير بشكلٍ طبيعي على الجليد الملتحف بغطاء من نتفٍ هشةٍ كأنها قطن أبيض تم نشره بدقةٍ متناهيةٍ على سطح الارض. كانت هناك طبقة من الثلج الحديث وتحتها طبقة أخرى من الجليد لا يستطيع تفاديها لأنَّها غير مرئية ما جعله متردداً في مسيره إلى القسم الداخلي.
البردُ والصقيعُ والثلجُ عالمٌ وطقوسٌ خاصةٌ، وأساليب اعتاد عليها من يقطن هذه المدينة المترامية الأطراف، لم يكُ محمد يستوعب من أين للنساء الجميلات القدرة على تحمل هذا البرد، وهنَّ يتمايلن كطائر البط يميناً وشمالاً في ملابسهن التي لا تغطي كلَّ الساق الممشوقة التي لا يقلُّ بياضها عن الثلج المحيط بكل شيء مع معطف فرو طويل نسبياً مقفل الازرار مفتوح أسفل الركبتين! في حين ارتدى هو كلَّ ما يملك من ملابس احتواها دولابه الصغير في الغرفة، كان يعتقد انها تكفيه ليتقي البرد، لكنه اكتشف مع أوَّل أيام الشتاء أنها تناسب أجواء الخريف التي تشابه إلى حد ما أيام الشتاء في ذلك الجنوب الذي يبعد عنه آلاف الكيلو مترات! بدأ يفهم لماذا تهاجر الطيور (الخضيري والحذافة وام سكة وأنواع اخرى)* إلى بلده أيام الشتاء تاركة خلفها تلال الثلج، ودرجات الحرارة التي تصل في أحيان كثيرة لما تحت 20 مئوي ليلاً، لكنها قد تتجاوز هذا الرقم ضعفاً في أقصى الشمال.
قابله مُدرِّسُ الرياضة عند بوابة المعهد خارجاً إلى بيته بعد انتهاء فترة عمله مع طلبة المرحلة الأولى
صباح الخير سيد (غيرمن دانيلوفيتش)
صباح الخير يا محمد، كيف حالك اليوم؟
الحمد لله، البردُ شديدٌ في الخارج بشكل يصعب تحمله!
هذا جيد، فكلما ازدادت درجة البرودة قَلَّتْ الفايروسات، والعدوى التي يمكن أنْ تنتقل إلينا. عليك أنْ تعتاد على هذه الأجواء والاحساس بجمالها وروعتها. لكلِّ شيء خصوصيته، فليس عبثاً تنوع الفصول الأربعة.
قال ذلك مع ابتسامةٍ عريضةٍ رسمها ممسكاً بيد محمد الباردة رغم انَّه كان يرتدي قفازاتٍ جلدية، قبل المصافحة؛ لكنَّها لا تناسب هذا الوقت من السنة، وعليه أنْ يرتدي قفازاتٍ بطانتها من الفرو؛ ليتحمل برد موسكو القارس. أنَّى له أنْ يعرف ذلك، وهو القادم من الجنوب وأهله الذين يتحدثون عن انخفاض درجات الحرارة للصفر المئوي أياماً طويلة، وتصبح مادة دسمة لجلسات المساء حول المدفأة النفطية الوحيدة في البيت، ويتذكرونها في السنوات اللاحقة! كان محمد يحظى بمعاملة دافئة من السيد (غيرمن)، الذي كان يشرح له طباع وعادات الروس وكيف يتعاملون مع الأجواء الباردة، وباغته بسؤال لا علاقة له بالبرد وانخفاض الحرارة:
محمد، هل تعرف السباحة؟
لا يا سيدي، امي كانت تمنعني من الذهاب إلى النهر أو المسبح؛ مخافة الغرق لذلك لم أتعلم السباحة.
لا عليك يا محمد، انا سأعلمك، تعال يوم غد، الساعة العاشرة صباحاً، وستذهب برفقة طلبة المرحلة الأولى، لديهم حصة النشاط الرياضي في مسبح المدينة.
لا املك ثَمنَ تذكرةِ الدُّخول
لا تشغل بالك، انا سأتدبر الامر
وفي صباح اليوم التالي حضر محمد في الموعد المحدد، ووجد كلَّ طلبة المرحلة الأولى مع السيد غيرمن مجتمعين عند بوابة المعهد. بعد أنْ القى التحية توجه إليه مدرِّس الرياضة:
بما أنك اكبرهم سناً ستقودهم إلى المسبح، وأنا سأذهب مع المساعدة بالسيارة.
اتفقنا
جَمعٌ من الفتيات الجميلات لا تتجاوز اعمارهن الثَّامنة عشر من مختلف مناطق روسيا الشاسعة ذات العرقيات والاجناس المتنوعة. تفحَّص وجوههن الواحدة تلو الأخرى، ضحكاتهن تملأ الممر المؤدي الى خارج البناية، يخالجه شعور بالخجل تارة، والفضول تارة أخرى بعد أنْ فقدَ بوصلة مشاعره، فلم ير من قبل هذا القدر من الجمال الممزوج بعنفوان الشباب مع كمية من الجموح لتكون كلُّ واحدة منهن امرأة ناضجة!
كلَّما اعتقد أنْ (نتاشا) أجمل من (ساشا) يغيِّرُ رأيه بعد قليل؛ ليؤكِّد لنفسه أنَّ (لينا) أكثر جمالاً من الاثنتين. يرجع ليجول بنظره ويدقق في الوجوه ليتخذ قراره النهائي، من هي الاجمل؟ ليجد أنَّ (سفيتلانا) كفَّتها هي الأرجح! كلُّ واحدة منهن تمتلك ما يؤهلها لتكون ملكة هذا الجمع، وتجعلها تقف في مقدمة القائمة التنافسية لتتراجع بعد حين لتصعد أخرى لا تقل جمالاً عن زميلتها. وهكذا استمر محمد يقدِّم واحدةً ويؤخِّر أخرى في سُلَّم قائمته الخاصة في رأسه، ويعود كَرَّةً ثانية ناسفاً كل قراراته الأولى، حائراً لا يعرف كيف يحدد الاجمل بينهن، فتضيع كلُّ محاولاته ادراج الريح! يعود إلى وعيه بعد أنْ أصبحوا على مقربة من المكان المنشود.
وصل الجمع بقيادة محمد ودخلوا المسبح، وانسحب هو ليقفَ في آخر الصف، فلا يعرف كيف يقدم نفسه لإدارة المسبح، ما صفته، أو سبب تواجده معهم، يختلف عنهم شكلاً ولوناً وعمراً مع شاربه الاسود الكث أسفل انفه، وسمرة بشرته الواضحة. كيف سيدخل وهو ليس من ضمن طلبة المرحلة الأولى ولم يشتر تذكرة الدخول!
قدَّمت احداهُنَّ قائمةً بأسماء الطلبة، وطلبوا منه الدُّخول أيضاً، ولم يعرف كيف تمَّ الاتفاق على إدخاله الى المسبح. شرحَ المدرِّس لمحمد ماذا يجب أنْ يفعل وأين عليه أنْ يغيِّر ملابسه، ويرتدي ملابس السباحة، ويحتفظ بالأخرى في دولابٍ مخصصٍ لذلك، ثم يتوجه الى الحمام ليغتسل بشكل سريع، وبعدها يدخل المسبح. وهذا ما تمَّ بالفعل.
وقف محمد في بداية حوض السباحة في المسار الذي لا يتجاوز عمقه المتر والنصف، يتحرك ضمن هذا المحيط، ولا يبتعد أكثر لخوفه من الغرق إذا تقدَّم الى الامام حيث مستوى المياه أعمق. وبدلاً من التركيز على اولويات السباحة وطرقها والحركات التي يجب القيام بها ليتعلم السباحة، لم يستطع غض طرفه عن صور الجمال الاخاذ المنتشرة حوله كلوحة فنية ثلاثية الابعاد، فتيات من عالمٍ آخر، لم يصدِّق نفسه، لم يدر في خلده يوماً أنَّه سيقف هذا الموقف الجلل! تعتريه ارتعاشه خفيفة من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، يقشعرُّ جسده من برودة الماء أم من دهشته، يضيق نَفَسه، يفقد اتصاله بالعالم الخارجي ويدور في خاطره كل ما كان ممنوعاً، أو مسكوتاً عنه في بلده النائي الغارق في أحلامه المنسية! يتيه بين تفاصيل ما يجري امامه.
تقدمت احداهن إليه:
لماذا لا تسبح معنا يا محمد؟
لم يسمع ما قالت، لأنه لم يكُ متواجداً ذهنياً تلك اللحظة، كان أغلب تركيزه منكباً على اكتشاف سر جمالها، وروعة قوامها وقدها الممشوق وشعرها الأشقر كأنه اشعة الشمس من شرقه النازف في حروب لا تنتهي!
كلُّ شيء فيها يبتسم، يضحك، يشعر محمد بفقر مشاعره وعزلته وضياع سنيه التي لم يعشها من عمره المنصرم هناك في شرقه البعيد، ولا يتذكر منه سوى اخبار الموت المتعدد الألوان والاشكال ينتشر كالريح الهوجاء تقصف أعمار الشباب في أجمل أيام حياتهم على جبهات القتال، وحصار قاس وحرمان من كلِّ ما يمتُّ للحياة بصلة، يغلفه خوف من نظام لا يرحم مخالفيه، يلاحقهم حتى في احلامهم. يعود من رحلته الخاطفة وسرحانه على صوتها المنساب إلى اذنيه ويطلب منها إعادة ما قالته له:
عفوا، ماذا قلتِ؟
لماذا لا تسبح معنا؟
سؤال تضمن في طريقة نطقه دعوة ليشاركهن متعة السباحة في مياه دافئة في شتاء قارس، مصحوبة بشيء من التعجب!
لا أُجيد السباحة.
مستحيل! انت المنقذ! هكذا تم تعريفك في قائمة الأسماء التي قُدِمت لإدارة المسبح! قالتها وهي غارقة في ضحكتها التي احتوت المكانَ كله!

* أسماء الطيور المهاجرة من اوروبا الى جنوب العراق

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 3

  1. Ammar Ghali

    منذ 1 شهر

    سرد جميل ومحاكي لحقيقة عاشها الكثير من الشباب العربي وبالاخص العراقي حينما اكملوا دراستهم في روسيا في تسعينيات القرن المنصرم. تمنياتي بالنجاح والموفقية لشخصكم الغالي. ع.ر.غ

  2. محمد صلاح الدين بيات

    منذ 1 شهر

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ليس بالجديد على دكتور فلاح فعرفناه عندما كنا في موسكو رجل عصامي عمل نفسه بنفسه رغم المضايقات الكثيرة التي تجاوزها بأخلاقه العالية وصبره اللا محدود وبأبتسامته المعهودة له كل الإحترام والتقدير

  3. مازن منذر

    منذ 1 شهر

    ما كتبه دكتور ليس سردًا بل ذاكرة تمشي على الثلج. كل سطر يقطر دفئًا وإنسانية، وكل وصف يعكس قلبًا عاشقًا للحياة رغم قسوة البرد. نصّ يلامس الروح ويستحق كل الإعجاب

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram