علي حسين
ليست ثمة فائدة تُرجى من متابعة أخبار السياسة في بلاد الرافدين، والاستماع إلى الخطب التحريضية، لكن ظروف العمل تدفعنا مضطرين لأن نُغرق أنفسنا في التحذلق السياسي، ومع ساسةٍ يعتقدون أن معركة العراق ليست مع الانتهازية وغياب الخدمات وسرقة مستقبل الناس، وإنما في التحريض بين مكونات الشعب، وإصدار قانونٍ للحصص الطائفية، وقانونٍ جديدٍ يحفظ للتوازن حقَّه. هكذا يبدو المشهد اليوم.
لقد أنجبت هذه البلاد الجواهري والرصافي والسيّاب وجواد سليم وعبد الله كوران ومصطفى جواد ونازك الملائكة وكوركيس عوّاد وعلي الوردي وطه باقر وجواد علي وهادي العلوي وعفيفة إسكندر… مصابيحَ للمعرفة والفنون، لم يكن أحدٌ منهم جزءًا من لعبة السياسة، لكنهم صنعوا تاريخًا زاهرًا لهذه البلاد. ومثلما لا يمكن أن تتخيّل فرنسا من دون سارتر وروسو، واليونان من دون أفلاطون، وإيطاليا من دون دانتي، وألمانيا من دون ماركس ونيتشه، وتشيلي من دون نيرودا، وإسبانيا من دون لوركا، فإننا لا يمكن أن نتخيّل بغداد من دون علّامةٍ بأهمية مصطفى جواد، الذي يذكره معظم أبناء بلاد الرافدين وهم يشاهدون مهزلة تهديم تمثاله في قضاء الخالص، ولولا الضجة التي أحدثها مشهد هدم التمثال لما تذكرنا صاحب المقولة الشهيرة “قلْ ولا تقلْ”.
كرّس العلّامة الراحل مصطفى جواد حياته من أجل غنى اللغة العربية التي تعمّق فيها، حتى قال عنه مجمع اللغة العربية في تأبينه: “كان عالمًا فذًّا وذوّاقًا للّغة، حريصًا على التعمّق فيها وإغنائها”، وكان دائم الرد على كل من يحاول أن يُحطّم أو يتجاهل معشوقته العربية بعبارته الشهيرة “قل ولا تقل”، التي تحولت إلى واحدٍ من أجمل كتب اللغة العربية.
وأنا أنظر إلى سائق الحفّارة الذي أصرّ على تهديم التمثال، تذكّرت ما جرى قبل أشهر ضد المرحوم الملك العراقي السومري كوديا، الذي أخبرتنا إحدى البلديات في المحافظة أنه “صنم”، وفي بلاد “المؤمنين” لا يجوز وضع تمثالٍ لصنم، لكن يجوز سرقة المال العام.
سيظل العراق يزهو بأعمال محمد مكية وقصائد الجواهري وتماثيل محمد غني حكمت ورسومات فائق حسن، وحرية جواد سليم ومرافعات كامل الجادرجي وأشعار السيّاب والبياتي ونازك وأغنيات القبانجي وحضيري أبو عزيز، ومشاريع نزيهة الدليمي وابتسامة يوسف العاني وصلابة محمد رضا الشبيبي ، ومعهم العشرات يملؤون مدن هذه البلاد بحضورهم وصخبهم. لم يبقَ اسمٌ لامعٌ إلا وأراد أن يضمّ إلى سيرته منجزًا يقدّمه إلى بغداد، وتحول العراق إلى منارةٍ تتلاقى فيها الحضارات وتتنافس عليها الأحلام والآمال.
علينا أن نُعلّم الأجيال أن في هذه البلاد عاش رجلٌ محبٌّ لبلاده ولغته، اسمه مصطفى جواد، وأن ذكراه ستبقى دائمًا، في وقتٍ تمرّ على بغداد هياكلُ سيكون مصيرها الزوال.









