TOP

جريدة المدى > عام > زهير الجزائري في سيرته "موجات مرتدّة": الثقافة الوطنية تكتب تاريخها

زهير الجزائري في سيرته "موجات مرتدّة": الثقافة الوطنية تكتب تاريخها

نشر في: 5 نوفمبر, 2025: 12:01 ص

شاكر الأنباري
أهمية هذه السيرة تكمن في شخصية الكاتب ذاتها، وتجربته الطويلة في عالم الحروف والكلمات على تنوعها الصحافي، والروائي، ثم عمق تلك التجربة التي عاشها داخل العراق وخارجه. وهي تندرج في مفهوم الثقافة الوطنية وغنى الحياة الشخصية، والكتابة الفنية، وتعدد الاشتغالات ضمن تاريخ يمتد إلى ثمانين سنة. تاريخ يفتح أبوابه وخفاياه منذ الحرب العالمية الثانية، ولا ينتهي حتى اليوم.
وقد ابتدأ زهير الجزائري سيرته بمدينته، مدينة النجف ومقترباتها من صحار وأهوار وبلدات قريبة، مثل سدة الهندية التي ولد فيها بعد طرد أبيه المتعلم، المتمرد على الرؤية الضيقة للدين، والمذهب، لينتهي منحازاً إلى روح العصر، والوطنية العراقية. وزهير فوق ذلك صادق في كتاباته سواء كانت روائية أو صحافية أو آيديولوجية، وقد كان شيوعياً ثم خرج إلى أفق إنساني أوسع. عاش في النجف وبغداد وبيروت ودمشق ولندن، وقاتل مع المقاومة الفلسطينية، وناضل ضد الديكتاتورية في جبال كردستان العراق، ولكل ذلك تعد شهادته قيّمة، ذات فرادة. وهي وثيقة على أحداث المنطقة كلها، وتحولات السياسة والآيديولوجيا والثقافة، وله رؤية نافذة في الأشخاص المؤثرين الذين عايشهم من صحافيين معروفين، وشعراء، ومفكرين، وسياسيين، ومناضلين، وفاشيين، وكتاب تقارير، وخدم للسلطة، أية سلطة، ومن يبدلون ولاءاتهم تبعاً للربح والخسارة.
إن قسماً كبيراً مما رواه زهير عن طفولته في مدينة النجف، وعلاقته بالأم والأب والمدرسة وألعاب الطفولة يكاد يكون مشتركاً مع ما عاشه أطفال العراق في بغداد والبصرة والرمادي والموصل وديالى، وغيرها من المدن، رغم الاختلافاات المناطقية والمذهبية والعشائرية، وهو ما يحيل، حصراً، إلى تأكيد واضح لبنية وطنية، ومشتركات اجتماعية عاشت قروناً في بلاد النهرين. كل ذكريات زهير عن طفولته وعن مدينة النجف باعتبارها مركزاً دينياً للشيعة بوجود مرقد الامام علي وسط المدينة والحركات المدنية في المجتمع والثقل الديني في الشارع والطقوس والحركات الاجتماعية، سخّرها زهير، لاحقاً، مادة أولية لروايته الملحمية "باب الفرج" بعد أكثر من قرن على حدوثها. تدور أحداث الرواية في الفترة المحصورة بين نهايات الدولة العثمانية وبواكير الإحتلال الانكليزي للعراق في الحرب العالمية الأولى. وقد غطت مروحة الأحداث قوساً واسعاً، زماناً ومكاناً، امتد من إمارة الشيخ خزعل في الأحواز حتى مكة المكرمة أثناء موسم الحج وبيع العبيد، مروراً بمعارك الحرب العالمية الأولى حين تقابل فيها الجيش الانكليزي مع الجيش العثماني وحلفائه من العشائر الجنوبية. وفيها يلاحق الروائي عائلة الشيخ مرتضى، بزوجاته الأربع وأبنائه وأخوته، حيث يتتبع تلك الشخصيات ومصائرها، ببراعة وصبر وكأنه كاميرا ذكية تدوّن ما يدور أمامها. وتتلاحق في السرد مزاوجة بين الأحلام، والوقائع، والحوارات، عبر خليط زمني يبلغ بعض الأحيان كما لو أنه يقفز على السنين ليجد الخيط بين الأجداد والأحفاد، وبين الأحداث المتناثرة في رقعة جغرافية شاسعة. وما يلفت النظر عند قراءة «باب الفِرج» هو تنوع الشخصيات، إذ نقع على العامل البسيط، والفلاح، والإقطاعي، ورجل الدين، والأمير، وتاجر العبيد، ونقع على الأمي والمجنون والشاعر والخطيب، كل يكشف عن دواخله بلغته، وهواجسه، وأحلامه. فترصد الرواية ذلك الصراع المستعر داخل العباءة الدينية المهيمنة على المدينة، وما يتمخض ويفور تحت السطح، خاصة بعد دخول الحداثة ممثلة بالفكر العلمي القادم مع الصحافة، والمجلات المصرية والبنانية، والكتب المترجمة وهي تخترق ستار الجهل والقناعات الدينية المهيمنة على فضاء المدينة منذ قرون.
وخارج الرواية يعود الجزائري في ذكرياته إلى شخصيات عاصرها في المدينة مثل الشاعر عبد الأمير الحصيري الذي انتهى متشرداً في شارع الرشيد لا يصحو من السكر، ومات في فورة شعره العمودي الطامح لمنافسة محمد مهدي الجواهري، ودفن في مقبرة النجف ورافقه في مثواه الأخير فالح عبد الجبار وزهير الجزائري ورياض قاسم. وفي تلك المدينة نقع على صراع بين رؤيتين هما الرؤية الدينية التي تعيش في النصوص القديمة بما تحمل من خرافات، وتهويل، وتلفيق، والرؤية المدنية حول انغمار الإنسان في المدرسة، والعمل، والاكتشافات العلمية، والحركات السياسية، والحريات الفردية.
وعاش زهير ذلك الصراع الدائم بين الرؤيتين منذ الطفولة. وقرأه عبر سيرته قراءة حكيمة واعية خاصة ما يتعلق بالموت، والعذاب في جهنم، وسطحية الوصف للجنّة في النصوص الدينية، وانعكاس كل ذلك على تجربته لاحقاً وقد بلغ الثمانين سنة من العمر.
يقول زهير: الولع بالجدل في النجف بين دارسي علوم الدين أزاح الإيمان الثابت وقاد العديد من شبان العشيرة، ومنهم والدي، إلى العلمانية برد فعل متطرف. لم يكتف والدي بإنكار العمامة والابتعاد عن الدراسة الدينية، بل درّس الموسيقى»العود» والمسرح في المدارس الحكومية إلى جانب اللغة العربية. وفي مكتبة والده أطل على أدب المنفلوطي ومحمد عبد الحليم عبدالله والأدب المترجم، أما مكتبات النجف فأغنت طفولته بمجلات ملونة ومغامرات لطرزان وفلاش غوردون وسوبرمان. أما بغداد التي قطن فيها أخواله فعلمته عشق السينما في مقتبل العمر، وعاقر بلذة أفلام مصر الرائجة في الستينيات.
وبعد شهادة مطولة عن ثورة تموز وعبد الكريم قاسم والصراع بين الشيوعيين والبعثيين وانقلاب الحرس القومي، وعند عقد الستينيات وبداية السبعينيات يلقي زهير الضوء على دخول الماركسية والوجودية والتنوير إلى بيئة النجف، وقد تبنى هذه الأفكار رموز نجفية كان لها باع طويل في التمرد على المجتمع مثل حميد المطبعي والحصيري وموسى كريدي والخليلي وزهير الجزائري وغيرهم، وأسس المطبعي مجلة الكلمة الرائدة، وبدأت هيمنة الفكر الديني تفقد الزمام وتنتقل إلى موقع الدفاع لا الهجوم كما كان الأمر في العقود الماضية.
وتأتي الانعطافة الكبرى في سيرة زهير الجزائري في منتصف عقد الستينيات حين بدأ دراسته الجامعية في بغداد، طالباً في كلية اللغات، القسم الألماني، ليقطن مؤقتاً في فندق الشمال قرب ساحة الميدان في قلب بغداد. هنا يعيش القاع البشري للعاصمة، مقاهيها، عاهراتها، باراتها، أسواقها ومطاعمها وشوارعها، لكن فوق كل ذلك النخب الثقافية المعروفة آنئذ، فؤاد التكرلي وعبد الملك نوري وحسين مردان وعمران القيسي وعلي الشوك وسهيل سامي نادر. يتعرف على رساميها ومغنيها مثل يوسف عمر والقبانجي وشعوبي العازف، عدنان القيسي وصباح ميرزا، وعلى المركز الثقافي البريطاني ومكتبة مكنزي وكتب الرصيف وسوق السراي وقصص العشق، وباصاتها المكتظة بالفتيات، وصحافتها الموزعة بين يمين ويسار، وفرص النشر في الصحف والمجلات. وكان في حيرة أن يصبح شاعراً أم قاصاً أم رساماً خاصة والفن التشكيلي كان له دور في دخول الحداثة إلى العراق بعد عودة المبتعثين، وكانوا من رموز الحركة التشكيلية مثل جواد سليم، ومحمد مهر الدين، وشاكر حسن آل سعيد، وفائق حسن، وغيرهم.
لكنه اختار القص، والصحافة، ولاحقاً، الرواية فأبدع في كل تلك الحقول.
ولعل حضور الجيل الستيني في الثقافة العراقية كان نقطة دالة في سيرة زهير. وقد أفرز مساحة واسعة لأهم رموز ذلك الجيل، مثل فوزي كريم وجان دمو وسركون بولس وفاضل العزاوي وحسين حسن وابراهيم زاير وشريف الربيعي وعبد القادر الجنابي، وسواهم ممن شكلوا ظاهرة في الشعر، والنثر، والتشكيل، والفاعلية السياسية والصحافية، بالذات في تواشجهم مع الأحداث المفصلية مثل هزيمة حزيران، وصعود البعثيين إلى الحكم، وهجوم الفلسفة الوجودية، والماركسية، وعلاقة الثقافة بالسياسة بصورة عامة. وهنا يعود الكاتب، وعبر تقنية اليوميات، ليسجل الرعب الثقيل في الحياة البغدادية والواقع العراقي بعد تمدد السياسات الثقافية لآيديولوجيا حزب البعث ما إن هيمن على السلطة.
وافتتح ذلك الرعب بإعدامات الجواسيس اليهود، كما وصفتهم السلطة، وبشكل علني، وتضييق الخناق على الثقافة المغايرة، وتغلغل الرؤية المتفردة الواحدية في الصحافة والمؤسسات النقابية ومحاصرة الآراء الحرة، وبداية تفكير كتّاب كثيرين للخروج من قبضة الوطن إلى خارجه بحثاً عن الحرية. وكانت شهادة صادقة بعين روائي يراقب بذكاء ما عاشه وما عانى منه بشر لبثوا أكثر من سبعين سنة ينتظرون أمراً ما، ربما هي العدالة الإجتماعية، لكنها لم تأت حتى اليوم. عن تلك الحقبة توج زهير رؤيته بعد عقود بروايتيه «حافة القيامة» و»الخائف والمخيف».
أقدم زهير على الغياب سنتين بين الفصائل الفلسطينية في الأردن ولينان وسورية، اكتسب خلال ذلك خبرة تفصيلية في معسكرات المقاتلين، ونمط الفصائل، وطرق الهجوم، حتى إنه شارك في الاقتراب من الحدود الإسرائيلية مع مفرزة قتالية أثناء إيفاد صحافي سابق، وهذا ما دفعه لكتابة روايته عن النضال الفلسطيني وأطلق عليها عنوان «المغارة والسهل»، أحدثت سجالات واسعة حين نشرها.
وحين عاد إلى الوطن مع زوجته وابنه نصير، وجد أن الواقع تغير، وأصدقاءه حوّل بعضهم ولاءه وآخرين انزووا في البيوت أو غادروا الوطن، وأصبحت حياة البارات والمقاهي ونقاشات النخبة عبثاً في عبث. وثمة يد رهيبة تضرب في الظلام دون رحمة، يد أجهزة الأمن المنفلتة من كل القيم والتقاليد، ولا لغة لها سوى لغة العنف. وسيكتب زهير لاحقا كتابه المبهر عن «المستبد/ صناعة قائد» يتناول فيه صعود الديكتاتور عقب تهيئة الظروف مجتمعياً وحزبياً. ثم عمل في مجلة الإذاعة والتلفزيون بالقطعة، وشهد اجتماعات كثيرة في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون، ودوّن يومياته تلك حول واقع الصحافة والإعلام في حقبة غريبة من تاريخ العراق: مفاوضات قيام الجبهة بين الشيوعيين والبعثين، بيان آذار حول الحكم الذاتي وهيمنة الرؤية البعثية على الإعلام، النقابات، التعليم، الرياضة، الجيش، وحياة الناس بصورة عامة.
ولعل التجربة الأعمق في المسيرة الصحافية لزهير الجزائري هي عمله في جريدة طريق الشعب أيام الجبهة الوطنية، وكان يرأس تحريرها حينذاك الصحافي القدير فخري كريم ومدير التحرير عبد الرزاق الصافي، وعمل فيها طاقم من أهم أدباء العراق ومفكريها في تلك الحقبة مثل فالح عبد الجبار وفاطمة المحسن ورشدي العامل وسعدي يوسف ويوسف الصائغ وسلوى زكو ومخلص خليل وشمران الياسري وغيرهم. ورصد زهير ما كان يدور في أروقة التحرير، وطرق التعامل مع حلفاء الجبهة الممسكين بالسلطة، ونذر الجو المشحون الذي انتهى لتصفية الحزب الشيوعي ومطاردة أعضائه بعد بضع سنوات من تلك التجربة.
وتكمن أهمية ما رواه زهير في نقطة أخرى دالة، ألا وهي اختلاط الرؤية الذاتية وحياة الكاتب بالجو العام، وهو ما يضيف مصداقية على ما يتلقاه القارئ، عدا عن وقوعه على سرد ساحر يختلط فيه الفكر بالصورة الواقعية بالخيال الروائي. وحين يجتمع كل ذلك في بعض الفصول تزداد اغراءات متابعة التوغل في بطون السنين والوقائع. إذ يكسر زهير رتابة الذكريات بتنويعات كتابية تأخذ بعضها صيغة الحكاية وبعضها الآخر اليوميات واسترجاع المدن، والعواصم التي زارها مثل موسكو وبوخارست وبيروت ودمشق، وينقل القارئ إلى تعرّفه بغائب طعمة فرمان في حانات عاصمة الشيوعية العالمية، وأحداث الحرب الأهلية في لبنان، وحصار تل الزعتر، وبعثته الصحافية إلى دهوك وأربيل والسليمانية. ويروي بتفصيل واع الشهور الأخيرة من الرعب التي عاشها الشارع العراقي أثناء بدء الحملة على الشيوعيين في المدن، البصرة وبعقوبة وبغداد وغيرها، وينقل ذلك الرعب الذي عاشه شخصياً في صفحاته المرعبة، المتوترة، الماشية على شفرة السكين. فأهوال المفارز المتنقلة، وصيحات المعذبين في السجون، والمطاردين داخل الأزقة، والقتلى المشمورين في الطرقات، كل ذلك لم يزل عالقاً بذهنه، ويصعب تصديقه أحياناً إلا لمن عاش تلك السنوات المرعبة.
خرج زهير من الوطن بجواز سفر يحمل اسم تاجر أردني هو ناظم كمال في نهاية عقد السبعينيات. وسيرته بشكل عام هي شريط سينمائي يوثق الزمن الماضي بلوحات ملونة من النثر، وحوارات عميقة، وغوص في دواخل نفسه والأشخاص الذين عاصرهم، وهي لا تهم القارئ العراقي فقط، بل العربي بكل تأكيد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram