محمد علي الحيدري
في الوقت الذي تنتظر فيه آلاف الأسر وصول قسائم الطعام المتوقفة ومرتبات موظفين اتحاديين مؤجلة، كانت قاعات مار-أ-لا-غو تضيء بأضواء مهرجانية وحفلة بطابع "غاتسبي" يقيمها رئيسٌ يسعى للظهور في أبهى حلله. ليست المفارقة محض صدفة توقيت؛ بل تجلٍّ رمزيٌّ لحالة عميقة في الحياة السياسية الأميركية: فصل متزايد بين مظهر السلطة وواجبها، بين عروض الوجاهة وواجبات الإدارة العامة.
الإغلاق الحكومي لم يعد مجرد أداة تفاوض برلمانية، بل مؤشر على شلل مؤسساتي. حين تتوقف الخدمات الأساسية، وتتأخر رواتبُ المئاتِ من الآلاف، ويصبح الحصول على دعم غذائي مسألة انتظارٍ مجهول، يتحول الصراع الحزبي إلى واقع يعيشه الناس على مائدة إفطارهم. هذه ليست مجرد أرقام وإجراءات؛ إنها فقدان للثقة في قدرة الدولة على أداء دورها الأساسي كضامن للاشتراك المدني. الدولة في هذه اللحظات تتحول من إطارٍ تنظيمي إلى مسرحٍ للتنازع، والضحية الأولى هي الفكرة نفسها عن الخدمة العامة.
أما حفلة القصر فلها سماحتها الخاصة في السرد السياسي. عندما تختار السلطة الاحتفال في وسط أزمة تمويلية، لا يكون الأمر ترفاً فحسب، بل صورة مركزة عن انقسام القيم: ترفٌ في جهة، وجوعٌ وقلق في جهة أخرى. في رواية "غاتسبي العظيم" تجتمع الفخامة مع الفراغ الأخلاقي، ومع إحياء هذه الصورة في مواجهة عجز حكومي تبدو الرسالة واضحة — ليست فقط إسرافاً، بل إعلان عن أولوية مختلفة؛ أولوية المظهَر على المسؤولية.
المسألة أخلاقية وسياسية في آنٍ واحد. هناك سؤالٌ لا بد من طرحه: كيف تبرر قيادة سياسية إقامة احتفالاتٍ استعراضية بينما تُحمّل العائلات أعباء تعطل الخدمات؟ الجواب لا يكمن في نقد بطولي للعادات الاجتماعية، بل في قراءة لافتة للأنماط التي تُعيد تشكيل الشرعية: شرعية تُقاس بالصورة، لا بالقدرة على إدارة شؤون المواطنين. وعندما تغدو الشرعية مظهراً، تتلاشى المحاسبة وتتعاظم الأزمة.
هذا التوازي بين الاحتفال والحرمان يفضح بالأساس تغيراً في الخطاب السياسي: لم يعد الصراع محصوراً في برامج اقتصادية وسياسات، بل امتد ليشمل نمط العيش والتمثيل. السلطة التي تمارس البذخ في ظل انقطاع الخدمات لا تفقد فقط مصداقيتها أمام من يعانون؛ بل تفقد كذلك الروابط الرمزية التي تربطها بالمجتمع. وفي غياب هذه الروابط، تصبح المؤسساتُ مسرحاً لتمثلات لا تقود إلى حلول، بل إلى مزيد من الاستقطاب.
في نهاية المطاف، الإغلاق والحفلة معاً هما مرآتان لذات الانقسام: الأولى تُظهر شلل الآليات الإدارية، والثانية تُظهر تفكك الحس الأخلاقي لدى من يملك زمام القرار. لحظة واحدة تكفي لالتقاط الصورة: أنوار احتفالٍ ساطعة تُخفي ظلال مواطنين ينتظرون أبسط حقوقهم. هذا ليس مجرد حدث يعبر عنه بتقارير إخبارية، بل اختبارٌ لمدى ثقافة القيادة ولفعالية مشروع الدولة نفسها. السلطة التي تأنس بالضوء بينما تطفئ أنوار مؤسساتها، تواجه نوعاً من الإفلاس أشدّ وقعاً من أي أزمة مالية — إفلاس في الوعي والمسؤولية.










