البصرة / عمار عبدالخالق
كشف مرشحون من الشريحة الأفروعراقية في البصرة عن حجم التمييز الذي يواجهونه خلال العملية الانتخابية، مؤكدين أن وصفهم بكلمة «العبد» لا يزال يستخدم كوصمة اجتماعية تحول دون مشاركتهم السياسية الكاملة، فيما حذر ناشطون من أن استمرار هذا الإقصاء يقوّض مبادئ المساواة والديمقراطية في العراق.
ويصف ناشطون ومراقبون ما يجري في البصرة بأنه ليس مجرد صراع انتخابي، بل انعكاس لخلل عميق في وعي الجمهور نفسه. فمدينة تُعرف بأنها مدينة التسامح والتاريخ والموانئ والفنون الموسيقية التي أسس جذورها أصحاب البشرة السمراء، لا تزال في كثير من الأحيان عاجزة عن تقبّل اختلاف بسيط في لون الجسد، بينما يرفع الناس شعارات المساواة في العلن ويمارسون عكسها في السلوك والنظرة.
ويصل الأمر، وفق شهادات المرشحين، إلى حد أن يُوصف الأكاديمي ابن الجامعة والمعرفة بكلمة «العبد»، وأن تُحرّض بعض الطبقات الاجتماعية على شراء أصوات أبناء «شريحة السواد» بثمن زهيد أو منعهم من العمل، وكأن المشاركة السياسية هبة تُمنح لا حق يُكتسب.
تقول زينب كرملي، ممثلة أصحاب البشرة السمراء في ائتلاف دولة القانون، في حديثها إلى «المدى» إن معركتها لا تشبه أي صراع سياسي مألوف، فموجة التعليقات التي واجهتها على منصات التواصل الاجتماعي لم تحمل جدلاً سياسياً أو رؤى انتخابية، بل ضغينة متجذّرة تهاجم الجسد قبل الفكرة واللون قبل البرنامج. وتضيف أن وجودها في المشهد بدا استفزازاً لمن اعتاد تحديد من يتكلم ومن يصمت ومن يُسمح له بالظهور في الساحة العامة.
وبيّنت كرملي أن عائلتها دفعت ثمن هذه المواجهة، إذ تسرب القلق إلى حياتهم اليومية وثقل الصمت على بيتهم، مؤكدة أن التراجع كان خياراً مطروحاً لكنها اختارت البقاء لأن الانسحاب يعني تكريس الصمت الذي كانت تحاول كسره. وأشارت إلى أن كثيرين من أبناء شريحة السواد كانوا محبطين بعد أعوام طويلة من التجاهل، لكن هذه المحاولة الانتخابية أعادت إليهم شيئاً من الثقة، فالمعركة ليست على مقعد بل على الاعتراف.
وأكدت كرملي أن بعض الشيوخ والكيانات السياسية مارسوا إقصاءً واضحاً بحق المرشحين الأفروعراقيين تحت شعار «حماية الهوية»، وهي هوية تحولت إلى بوابة مغلقة بين الإنسان وحقه، وأداة ضبط ومنع، بينما تُنسى الفنون والموسيقى التي أسسها أصحاب البشرة السوداء في المدينة.
أما المرشح ماجد حامد دينار الخالدي عن كتلة صادقون فقال لـ«المدى» إن الكلمة التي تتردد في الشارع والتعليقات والنظرات، كلمة «العبد»، ما زالت تشكل جداراً نفسياً يسبق كل حوار، رغم حضور أبناء هذه الشريحة في الجامعات والمدارس والمؤسسات. وأوضح أن بعض طبقات المجتمع لا تزال تحرّض على شراء أصواتهم أو منعهم من العمل والمشاركة في منصات القرار.
ويضيف الخالدي أن ما يطلبه ليس امتيازاً بل حياة طبيعية تتوافر فيها فرص السكن والعمل والاحترام المتبادل، مؤكداً أن الفقر والتهميش ليسا قدراً بل نتيجة مسار اجتماعي طويل يحتاج إلى تصحيح. ويشير إلى أن الدستور العراقي جاء ليضمن الحقوق قبل الواجبات ويؤسس للتوازن ويمنح المواطن قيمته، لكن ما يُمارس على هذه الشريحة لا يزال يناقض تلك المبادئ.
في هذا السياق، تأخذ انتخابات البصرة معنى مختلفاً، إذ لا تبدو مجرد منافسة أرقام أو استعراض صور، بل مواجهة مع تاريخ طويل حاول إخفاء جزء من ذاته. ويعيد هذا المشهد طرح السؤال الكبير: أيّ مدينة تريد البصرة أن تكون؟ وهل يمكن أن ترى لونها المتعدد بلا خوف أو خجل؟
ويرى مراقبون أن دخول الأفروعراقيين إلى البرلمان، إذا تحقق، سيمنح المدينة فرصة لإعادة ترتيب علاقتها بنفسها، ويؤكد أن البصرة ليست جسداً واحداً بل نسيج حيّ يتنفس بتعدد مكوناته. فشريحة السواد لم تكن هامشاً منسياً، بل قلباً نابضاً في جسد المدينة منذ زمن، وأن المشكلة ليست فردية بل إرث اجتماعي يحتاج إلى مواجهة جماعية.
ويشير رئيس مركز حقوق الإنسان في البصرة مهدي التميمي في حديثه إلى «المدى» إلى أن الشريحة الأفروعراقية تعرضت على مر السنوات لانتهاكات جسيمة متعددة الأبعاد، نفسية وسياسية واجتماعية واقتصادية، في بلد يُفترض أن يكون شعار الدولة فيه التسامح والتعايش السلمي. لكنه يرى أن الواقع يختلف كثيراً عن الشعارات، إذ يواجه هؤلاء المواطنون في حياتهم اليومية أشكالاً من التعسف والإقصاء تجعلهم مهمشين بلا صوت حقيقي أو مؤثر في القرارات السياسية.
ويضيف التميمي أن الإقصاء لا يقتصر على السياسة بل يمتد إلى الفرص الاقتصادية والعيش الكريم، إذ يعيش كثير من أبناء هذه الشريحة في ظروف صعبة ويجدون أنفسهم محاصرين بموروث اجتماعي وثقافي متجذر يجعلهم عرضة للوصم والتمييز منذ المدرسة وحتى مؤسسات الدولة. ويؤكد أن غياب تمثيلهم الحقيقي في البرلمان يعني استمرار دورة التهميش والانتهاكات، وأن ترشحهم اليوم يمثل محاولة لكسر حواجز تاريخية واجتماعية قائمة على تمييز واضح.
من جانبه، قال المحلل السياسي علي كريم لـ«المدى» إن الإقصاء الذي تعاني منه الشريحة الأفروعراقية في البصرة يشكل تهديداً حقيقياً للعملية الديمقراطية ويقوّض المبدأ الأساسي للمساواة بين المواطنين، مضيفاً أن تعامل المؤسسات الحكومية مع هذه الشريحة يكشف فجوة واضحة بين ما تنص عليه القوانين والدستور وما يُمارس على أرض الواقع.
وبيّن كريم أن هذه الممارسات لا تؤثر على الأفراد فقط بل على المجتمع ككل، لأن حرمان شريحة كاملة من المشاركة الفاعلة في صنع القرار السياسي والاجتماعي يضعف الثقة بالدولة ويكرّس شعوراً بالغبن، وهو ما ينعكس سلباً على مسار العدالة والمواطنة المتساوية.










