زهير كاظم عبود
يقدّم الكتاب بمقولة لقائد بعثي سابق (سامي الجندي) يقول فيها: أصبح البعثيون بلا بعث، والبعث بلا بعثيين، أيديهم ملطخة بالدم والعار، يتسابقون إلى القتل والظلم والركوع أمام مهماز الجزمة.
تُعبّر الصراحة في المذكرات أحيانًا عن محاولة للتكفير المعنوي أو للمراجعة الفكرية بعد سنوات من الممارسة السياسية، فالمسؤول الذي عاش داخل النظام قد يسعى إلى مصارحة الأجيال الجديدة بتجربته، ليبيّن أخطاء المرحلة السابقة أو حدودها الأخلاقية والسياسية، هذه المذكرات تمثل شكلًا من أشكال المحاسبة الذاتية، حتى وإن جاءت متأخرة، بذلك تصبح المذكرات وثيقة تجربة وعِبرة أكثر من كونها مجرد سرد للذكريات.
خاض القيادي البعثي محمد رشاد الشيخ راضي تجربة الانتماء لحزب البعث العربي الاشتراكي منذ شبابه في مدينة النجف، ومنذ بواكير هذا الانتماء أدرك أن الوقوف إلى صف جناح اليمين يبقيه منحازًا إلى صفوف كتلة تعمل وفقًا لوجهة نظره بما يخالف الواقع الثوري للأمة العربية ومصالح الشعب، فعمل مبكرًا مع الجناح اليساري للبعث، ولهذا تحمّل جراء هذا الموقف ظلمًا مضاعفًا، من الحكومات التي حاربت البعث والبعثيين، ومن البعثيين الذين أفرغوا البعث من مضامينه التقدمية.
الجزء الأول من المذكرات يكشف فيه محمد رشاد الشيخ راضي تفاصيل جريئة ودقيقة عن تحوّل جزء من البعث إلى جهاز أمني بعيد عن المصلحة الوطنية، ونهجٌ متخلّفٌ ومتفردٌ لا ينسجم مع الواقع العربي والتيار العروبي، يلجأ إلى استعمال البطش والقوة والعضلات والعنف بدلًا من استعمال العقل والحوار والتطور الفكري، وفق هذه الصورة يضع فاصلًا من وجهة نظره بين بعث صدام – البكر وبين بعث سوريا الأسد.
وما يميز هذه المذكرات تلك الصراحة التي تجعلها ضمن سلسلة مذكرات شخصية لبعض ممن خاضوا تجربة الانتماء للبعث وكتبوا عنها بجرأة وصراحة، مثل هاني الفكيكي في أوكار الهزيمة وخالد علي الصالح في طريق النوايا الطيبة ومحسن الشيخ راضي في كنت بعثيًا، ليستكمل محمد رشاد الشيخ راضي عضو قيادة قطر العراق (جناح اليسار) وعضو القيادة القومية الاحتياطية تلك السلسلة بكشف حقائق ليس فقط عن الصراع الدائر ضمن البعث، إنما يكشف وبالأسماء ودون أن يلجأ إلى الترميز والإشارة إلى الصراحة، في هذا الجزء من المذكرات.
يُعدّ محمد رشاد الشيخ راضي أحد الشخصيات البارزة في تنظيم جناح اليسار ضمن القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وقد قدّم في مذكراته وتصريحاته رواياتٍ اتسمت بالصراحة والوضوح، تناول فيها طبيعة الصراعات الداخلية التي شهدها الحزب خلال مراحل مختلفة من تاريخه التنظيمي والسياسي. وقد أشار الشيخ راضي إلى أن تلك الصراعات لم تقتصر على الخلاف الفكري أو التباين في الرؤى السياسية، بل تجاوزتها إلى مظاهر العنف السياسي المتمثلة في الاقتتال والتآمر وعمليات التصفية الجسدية، نتيجةً لتنامي الصراع على المناصب والمصالح والنفوذ داخل البنية الحزبية.
ولعل عملية اغتيال القيادي (أحمد العزاوي الملقب أبو الجبن) أكثر من مرة كانت صورة من صور التصفيات بين الرفاق، بالإضافة إلى التكتلات والولاءات داخل التنظيم، ويسرد مثالًا لعمليات الارتداد عن بعث اليسار بعض الشخصيات القيادية التي تحوّلت إلى توابع ذليلة لنظام صدام.
ضمن هذه المذكرات التي حرّرها وعلّق عليها الدكتور مجيد تقي العقيلي، يستعرض فيها تعرّضه للملاحقة والسجن بعد انقلاب تموز 1968، وينتقل منها إلى تجربته بعد الانتقال إلى سوريا التي وصلها هاربًا، ويقدّم صورة صادقة عن بعض الشخصيات القيادية في تنظيم بعث اليسار التي تحوّلت إلى أقصى اليمين، وما يزيد تلك الصورة دقة أن يقرنها ويعزّزها بوثائق تدلّل على صحة ما ذهب إليه، كاشفًا عن حدّة الصراع الشخصي والمصالح الذاتية التي وصلت إلى حد القتل والتصفيات الجسدية بين القيادات، وهروب بعضهم إلى التنظيم الصدامي طمعًا بمركز وظيفي أو منصب متميز، غير أن صدام الذي كان ينظر بازدراء لمثل هذه النماذج أذلّهم وأهانهم، وكشف الشيخ راضي أيضًا عمليات التسلل إلى المؤتمرات الحزبية وسطوة العلاقات الشخصية والمصالح في عمليات الانتخاب.
كما يُبرز الشيخ راضي في شهاداته موقفًا نقديًا من بعض القيادات السياسية العراقية الراهنة، التي كانت في فتراتٍ سابقة مرتبطة به أو تعمل إلى جانبه ضمن أطر المعارضة للنظام الصدامي، إلا أنها — بحسب وصفه — تتنكر اليوم لعلاقاتها السابقة به، وتسعى إلى إعادة صياغة سردياتها السياسية بما يتناسب مع التحولات التي شهدها المشهد العراقي بعد عام 2003.
وتلك صورة بحاجة إلى المراجعة الوجدانية والأخلاقية، فيتم شمول أفراد التنظيم بنص المادة (7) من الدستور العراقي التي تحظر البعث الصدامي من العمل السياسي، فيتم منعهم وشمولهم بالنص مع معرفة جميع أطراف العملية السياسية بالعراق اليوم أن هذه الكتلة السياسية التي كانت جزءًا لا يتجزأ من المعارضة العراقية لم يكونوا ضمن تنظيم البعث الصدامي، بل كانوا من بين ضحايا هذا النظام وقدّموا عددًا من الشهداء، وتلك مفارقة سياسية.
من الدوافع المهمة كذلك رغبة الكاتب محمد رشاد الشيخ راضي في إعادة صياغة صورته أمام التاريخ، لا سيّما إن كان قد ارتبط بنظام بعثي مناوئ لنظام بعثي آخر مثير للجدل. فكتابة المذكرات بشفافية قد تمنحه شرعية أخلاقية جديدة بوصفه (شاهداً ناقداً) لا (مشاركاً صامتاً)، إنها محاولة لاستعادة الاعتبار أو لتثبيت موقعٍ رمزي في الذاكرة الوطنية.
تُعدّ المذكرات الصريحة وسيلة لتقديم رواية من الداخل تسهم في كشف الحقائق المغيّبة عن طبيعة عمل الحزب وآلياته الداخلية، بما في ذلك ما كان يجري من صراعات وتوجهات متعارضة. فغالبًا ما كانت الأنظمة الشمولية، ومنها نظام البعث في العراق أو في سوريا، تُقدّم سردية رسمية تُظهر الحزب متماسكًا ومتماهيًا خلف القيادة، بينما تكشف المذكرات عن واقعٍ أكثر تعقيدًا، وما قدّمه السيد حامد علوان الجبوري وصلاح عمر العلي من تصريحات متلفزة يكشف عن تلك الصور داخل البعث العراقي، وتأتي مذكرات محمد رشاد الشيخ راضي لتكشف ما يدور داخل البعث السوري، ولذلك فإن الغاية هنا هي تفكيك الأسطورة السياسية التي بناها النظام حول ذاته، وتصحيح التاريخ من وجهة نظر شاهدٍ مشاركٍ في الأحداث.
تُعدّ المذكرات مصدرًا أوليًا بالغ الأهمية لفهم ديناميكيات السلطة داخل الحزب، وأساليب اتخاذ القرار، وآليات الإقصاء أو الصعود داخل الهرم التنظيمي. فهي تقدّم مادة نوعية تساعد الباحثين على دراسة البنية الداخلية للأحزاب العقائدية في العالم العربي، فالصراحة هنا تخدم المنهج التاريخي العلمي عبر إغناء مصادر البحث بالشهادات المباشرة.
وتأتي هذه المذكرات لتؤكد على انتهاء حقبة من حكم حزب البعث في العراق وفي سوريا، فالبعث صار تاريخًا ولم يعد قادرًا على تجديد نفسه، ولن يستطيع العودة إلى السلطة في أي بلدٍ عربي مهما كانت الظروف، إذ اقترنت فترة استلامه السلطة بالدم والموت والدمار والخراب، والمساهمة في عرقلة الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في كلا البلدين.
وأخيرًا، قد تنطوي المذكرات على رسالة تحذيرية للأجيال القادمة، مفادها أن الصراع على السلطة، وغياب التعددية، وإلغاء الرأي الآخر، يمكن أن تؤدي إلى انهيار المشروع السياسي العربي مهما كانت شعاراته.










