TOP

جريدة المدى > عام > قراءة في كتاب "المحليّة العربية" للناقد ناصر الحجّاج

قراءة في كتاب "المحليّة العربية" للناقد ناصر الحجّاج

نشر في: 12 نوفمبر, 2025: 12:01 ص

سليم سوزة
يقدّم الدكتور ناصر الحجّاج في كتابه «المحليّة العربية: الثيمات المحليّة في الشعر العربي الحديث» Arab Vernacularism 2024، وعبر قراءة المحليات التي وظفها الشعراء العرب في الشعر الحديث، يقدم رؤية جديرة بالاهتمام في حقل الدراسات اللسانية والثقافية حين يؤسّس لمنهجية مغايرة للسائد تجمع بين تحليل الخطاب Discourse analysis والنظرية الأدبية Literary theory عبر تطبيقات في تحليل بنية النصوص العربية، العراقية خصوصاً، ويُبيِّن الكتاب أن تعدّد الألسن واللهجات في النص العربي الشعري والأدبي ليس نيلاً من اللغة المُمَأْسسة، بل سبيلٌ آخر للمعرفة. هذا الكتاب هو ثورة منهجية تنحاز نحو المحلّي ضد الرسمي، وانتصار للشعبي على الحكومي، ومقاومة ثقافية «غرامشية» Cultural resistance للهامش ضد المركز عبر اطار اللغة، اللغة التي هي سياسة واجتماع وثقافة في آنٍ واحد. الكتاب محاولة لتعكير مزاج العولمة الثقافية ومقاومة فرض لسان واحد وموحّد بوصفه معياراً لتحديد "الأدب الرفيع" من عدمه.
ينتصر الحجاج في هذا الكتاب إلى اللغات واللهجات المحليّة Vernaculars قبالة اللغات واللهجات "الرسمية" المفروضة تاريخياً من "السلطة" باعتبار أنَّ الأولى هي نوع من أنواع الثقافة والتعبير عن الذات كذلك، أما الكيان السلطوي. الثقافة ليست فصاحة تفرضها مؤسسة نحوية، بل تجربة إنسانية واجتماعية يعيشها الفرد، ومن حقه التعبير عنها بلسانه ومعجم ألفاظه المحليّة، كما فعل بدر شاكر السيّاب، وقبله ت. س. إليوت في مقالته "موسيقى الشعر ـ The Music of Poetry"
يدور كتاب الحجاج أعلاه في فلك كتب الدراسات الثقافية التي تعلن موقفها الرافض للهيمنة الثقافية Cultural hegemony وتنتصر للتعددية الثقافية، ولآداب الأقليات ولثقافاتها وفنونها وللهوامش والنساء، والمجتمعات المقموعة، بوصفها ثقافات وتجارب مازالت تقاوم نزعة تقديس الأدب وتقنينه Canonization of Literature، النزعة التي تحصر اللغة والأدب بلغة فصيحة واحدة أسّسها وكتب بها كبار الأدباء والمثقفون والرواة الأوائل. لقد كانت شقيقة الكاتب الإنكليزي الكبير شكسبير، بحسب خيال الروائية العالمية فيرجينيا وولف، تقول: كنت أكتب أفضل من شقيقي شكسبير، لكنه رجل وأنا امرأة. بمعنى أنه لا يمكن لكتاباتي أن تُشرْعَن Canonized كما كتابات شقيقي. أنا امرأة وهو رجل، أي أنا هامش وهو مركز.
«المحليّة العربية» ليست هامشاً وُلِد من صدفة جغرافية فرضتْ على مواطنيها لهجة خاصة وثانوية للّغة العربية الفصحى، بل تجربة إنسانية عميقة شكّلتها طبيعة العيش في سياق اجتماعي خاص، له أساليبه وأحاسيسه ومشاعره في التعبير عن همومه ومشاكله وتطلّعاته بلهجته الدارجة (لسانه). لا يمكن للصعيدي المصري أن يعبّر عن تجربته الشخصية بلغة ابن خلدون مثلاً، لكنه يمتلك أدواته ولهجته التي يستطيع من خلالها شرح فهمه وهمومه بطريقة لا يمكن ربما للّغة ابن خلدون الفصحى فهمها وشرحها.
لا يقتصر هذا الأمر على عصرنا الحالي حيث تحوّلت أمة العرب إلى دولٍ عدّة ولهجات عربية مختلفة، بل حتى في الأزمان السابقة. كان ثمّة لهجات عربية مختلفة، حجازية ويمانية وعراقية وغيرها، (مفعوم الأحرف السبعة) أُريد لها أن تذوب في لهجةٍ/لغةٍ عربية فصيحة واحدة تنسجم وإرادة "السلطة" في خلق وعي ثقافي واحد وموّحد لخدمة أغراض إيديولوجية معيّنة (مصطفى صفوان ـ لماذا العرب ليسوا أحرارا؟) عبر استخدام حجج قرآنية متكلّفة غير صحيحة. قُتِلَ الحسين بن منصور الحلاج وجُلِدَ ابن شنبوذ لمجرّد أنهما قرآ، وفسّرا النص القرآني بلغاتٍ وقراءاتٍ خالفت القراءات السبعة المعروفة (التي حددها ابن مجاهد) للقرآن. لم يقتلهما الله أو يجلدهما، بل قتلهما وجلدهما مَن اعتقد بجمود النص القرآني على قراءات سبع فحسب، وحاول أن يختزل فهم النص في ثقافة "المركز" فقط، ذلك الفهم ذو الدلالات والمعاني المختلفة الذي استوعبه القرآن جيّداً وحيّدَه وحاربه النحويون فيما بعد، كما يجادل الحجّاج.
لم يخدم النحو الثقافة العربية، بل قمعَ أصواتاً ولهجات ومحلّيّات مختلفة ومتعدّدة لصالح مركزية عربية فصحى، فساهمَ، بطريقة أو أخرى، في قمع معارف شكّلتْ هامشاً مهمّاً يُضيف على النص الأصلي ويوسِّع من مفهومه ومعانيه وطاقاته التعبيرية والإبداعية. يعمل الحجّاج في كتابه هذا على هذا الهامش المقموع الذي يُسمّيه «بالمحلّيّة العربية» ويعيد اكتشافه مصدراً مشاكساً للمعرفة العربية المركزية الرسمية لا يقل أهميةً عن مصادر المعرفة الأخرى التي رسّختها «المؤسسة» وعملَ عليها رجالاتها من دون قصد أحياناً، بل هو المصدر الأنبل كما يصفه دانتي في مقالته "البلاغة العاميّة De vulgari eloquentia" الحجاج ـ ص 290.
مثل هذه "المحليّة العربية" لا يجب أن تُقمَع لمجرد أنها ليست مُشَرْعَنَة Canonized، لأنها بالنهاية شكل آخر من أشكال الثقافة التي يجب أن ندرسها ونحلّلها لمعرفة أنماط تعبير مختلفة وسط وسائل تعبير سائدة وتقليدية. "المحليّة العربية" وسيلة من وسائل المقاومة الثقافية للسائد من اللغة والثقافة والنمط "الرسمي" في التفكير والتعبير، فتحرير الفكر يتطلب تحرير اللغة.
هذه هي الثيمة الأساس لكتاب الحجاج، الذي اتخذ «المحليات» المختلفة التي وظفها الشعراء في الشعر العربي الحديث والمعاصر، تطبيقات لها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

بروتريه: فيصل السامر.. قامة شامخة علماً ووطنيةً

موسيقى الاحد: 250 عاماً على ولادة كروسيل

الحكّاء والسَّارد بين "مرآة العالم" و"حديث عيسى بن هشام"

في مجموعة (بُدْراب) القصصية.. سرد يعيد الاعتبار للإنسان ودهشة التفاصيل الصغيرة

شخصيات اغنت عصرنا.. الملاكم محمد علي كلاي

مقالات ذات صلة

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة
عام

الكاتب يقاوم الغوغائية والشعبوية والرقابة

أدارت الحوار: ألكس كلارك* ترجمة: لطفية الدليمي يروى كتابُ مذكرات لي ييبي Lea Ypi ، الحائز على جائزة، والمعنون "حُرّة Free" تجربة نشأتها في ألبانيا قبل وبعد الحكم الشيوعي. أما كتابُها الجديد "الإهانة indignity"...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram