المدى/سيزر جارو
منذ سقوط نظام البعث عام 2003، دخلت مدينة الموصل مرحلة جديدة من الفوضى العقارية والاجتماعية انعكست آثارها بشدة على المكوّن المسيحي، أحد أقدم سكان المدينة. ما بدأ بعمليات استيلاء متفرقة على بيوت المهاجرين والنازحين المسيحيين تحوّل مع مرور السنوات إلى ظاهرة ممنهجة، تداخلت فيها المصالح الطائفية والسياسية والعسكرية، لتصبح اليوم واحدة من أعقد الملفات بعد تحرير الموصل من تنظيم «داعش».
في السنوات التي تلت التغيير، اضطر آلاف المسيحيين إلى مغادرة المدينة بسبب الانفلات الأمني، بينما بدأت جهات متنفذة بالاستحواذ على بيوت وأراضٍ تركها أصحابها خوفاً على حياتهم. بعض تلك الممتلكات سُجّل بأسماء مزيفة أو تم تزوير وكالاتها الشرعية في الدوائر العقارية. آنذاك، لم تكن الدولة قادرة على فرض النظام في مدينة شهدت صعود الجماعات المسلحة باختلاف انتماءاتها.
يقول الباحث في شؤون الأقليات سعد متي توما لـ«المدى» إن «القضية لم تبدأ مع داعش، بل قبل أكثر من عشرين عاماً. غياب الدولة ووجود الميليشيات المحلية والوسطاء الفاسدين في الدوائر الحكومية مهّد الطريق أمام الاستيلاء على الممتلكات المسيحية، التي عُدّت آنذاك هدفاً سهلاً لأن أصحابها إما هاجروا أو لا يمتلكون نفوذاً سياسياً».
عندما سيطر تنظيم «داعش» على الموصل عام 2014، كانت الممتلكات المسيحية أول ضحاياه. فقد أصدر التنظيم «وثيقة الجزية» التي أجبرت من تبقّى من المسيحيين على الرحيل، تاركين منازلهم وأراضيهم. أُحرقت الكنائس، وجرى «مصادرة» مئات العقارات بحجة أنها أملاك لـ«دولة الخلافة».
لكن المفارقة أن معاناة أصحاب تلك الأملاك لم تنتهِ بعد طرد التنظيم. فمع عودة الحياة إلى الموصل، فوجئ كثيرون بأن بيوتهم ما تزال مشغولة — هذه المرة من قبل جهات مسلحة «منتصرة»، أو أطراف نافذة استغلت الفوضى الإدارية لتثبيت ملكيات مشكوك فيها.
المحامي مازن بولص القس، الذي يتولى عشرات القضايا الخاصة باسترجاع ممتلكات مسيحية، قال في حديثٍ لـ«المدى»: «لدينا أكثر من 200 ملف في المحاكم تتعلق بأراضٍ وبيوت استولى عليها أفراد وجهات مرتبطة بفصائل نافذة. البعض يقدّم سندات رسمية، لكنها مزورة أو صادرة من دوائر محلية تعرضت للابتزاز بعد التحرير. الأمر تجاوز كونه مسألة عقار، إنه ملف مرتبط بالنفوذ السياسي والاقتصادي في المدينة».
في السنوات الأخيرة، أطلقت الكنيسة الكلدانية وسائر الطوائف المسيحية حملات واسعة بالتعاون مع ناشطين آشوريين لتوثيق هذه الانتهاكات. مبادرات مثل «بيتنا الموصلي» و«عد إلى دارك» حاولت جمع بيانات عن العقارات المغتصبة وتقديمها إلى اللجان الحكومية والبعثات الأممية.
القس يوسف شمعون من أبرشية الموصل وتوابعها للسريان الكاثوليك قال في حديث خصّ به «المدى»: «نحن لا نسعى فقط إلى استعادة بيوت المسيحيين، بل إلى استعادة فكرة المواطنة في المدينة. بيت المسيحي الذي يُستولى عليه اليوم هو بيت الموصل بأكملها. إذا لم يُحاسب من يستولي على أملاك الغير، فسنفقد ما تبقّى من الثقة بين مكوّنات المدينة».
ورغم بعض التحركات الحكومية، خصوصاً من قبل لجنة العقارات المستولى عليها في نينوى، فإن أغلب القضايا ما تزال تراوح مكانها بسبب غياب الحماية القانونية الفعلية للمشتكين، أو خشيتهم من التهديدات. يشير ناشطون إلى أن بعض المسيحيين الذين عادوا إلى الموصل تعرّضوا لمحاولات ترهيب لإجبارهم على بيع ممتلكاتهم بأسعار رمزية.
اليوم، بعد أكثر من عقدين على بداية هذه السلسلة، يبدو أن معركة استرداد البيوت تحوّلت إلى اختبار حقيقي للدولة العراقية. فبينما تواصل المنظمات الدولية الحديث عن «التنوع» و«التعايش»، يعيش المكوّن المسيحي في نينوى هاجساً مكرراً: العودة إلى بيت قد لا يكون موجوداً قانونياً بعد الآن. يقول توما في ختام حديثه إن «التحرير العسكري سهل، لكن التحرير المدني والعدالة الاجتماعية هما الأصعب. إذا لم تُعاد الحقوق العقارية إلى أصحابها، فإن الحديث عن عودة المسيحيين إلى الموصل سيبقى مجرد شعار».
من بين من عادوا إلى الموصل بعد نزوحهم الطويل، جورج حنا بولص، أحد أبناء حي الساعة في الجانب الأيمن من المدينة، الذي اضطر لمغادرتها عام 2014 بعد دخول «داعش». قال في حديثٍ خصّ به «المدى»: «رجعت إلى الموصل في عام 2018 بعدما سمعت أن الوضع الأمني تحسّن، لكنني تفاجأت بأن بيتي تحوّل إلى وكر تابع لمجموعة مسلحة مرتبطة بكتائب بابليون. وضعوا بوابة حديدية جديدة ورفعوا أعلامهم فوق السطح، ولم يسمحوا لي حتى بالدخول. راجعت الجهات الأمنية والإدارية أكثر من مرة، لكن لم أجد من يجرؤ على مطالبتهم بإخلاء البيت».
جورج، الذي يسكن حالياً في شقة مستأجرة داخل دهوك، يقول إن حلم العودة إلى مدينته صار «مستحيلاً» ما لم تُفرض سلطة القانون في نينوى، مضيفاً: «نحن لا نطلب امتيازات، فقط نريد أن نعيش في بيوتنا التي بنيناها بعرق السنين. كل ما أملك في الموصل ضاع بين داعش والميليشيات. نحن ضحايا حربين لا نهاية لهما».
ورغم الجهود المتفرقة للناشطين والكنيسة، تبقى الحقيقة القاسية أن آلاف البيوت المسيحية في الموصل معلّقة بين سجلات عقارية متنازع عليها وواقع أمني وسياسي غامض. المدينة التي كانت يوماً رمزاً للتنوع الديني، تجد نفسها اليوم أمام سؤال وجودي: هل يمكنها أن تعيد لأبنائها المسيحيين مفاتيح بيوتهم قبل أن يفقدوا آخر خيطٍ يربطهم بها؟










