TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > هوس الميديا

هوس الميديا

نشر في: 13 نوفمبر, 2025: 12:01 ص

د. أثير ناظم الجاسور

لعب التطور التكنولوجي دورًا كبيرًا في حياتنا، لا بل راح ينظّم وقتنا وفق مستويات لا نستطيع تنظيم أنفسنا بعيدًا عنها. قد تكون عملية تقبّل هذا التطور متفاوِتة بين الفئات العمرية، والتعامل معه أيضًا من حيث تناول الموضوعات المطروحة التي باتت واحدة من أساسيات الحوار في هذه المساحة لدى كل فرد أو على الأقل الغالبية العظمى منهم. ومن ثم رسمت هذه الطفرات التكنولوجية معالم التحول الفردي بعد أن جعلت منه جزءًا من جماعات افتراضية يُحاور ويجادل ويناقش قضايا وفق أنظمة إلكترونية وتكنولوجية لا يستطيع إلا أن يسير وفق خوارزمياتها. بسيطة هي الأدوات المطروحة في الأسواق من حيث الاستخدام والاقتناء، بعد أن دخلت الشركات العالمية المتخصصة بهذا الجانب في تنافسٍ مرعبٍ في سبيل الوصول وبأسرع وقتٍ ممكن إلى ذلك المستهلك الذي أصبح يتغذّى عقليًا على كل ما تتناوله هذه الأجهزة وما تحتويه، والتي استولت على كل مدركات البشر وحواسهم.
لا يتجاوز كفّ اليد، لكن فعله أكبر من القنبلة النووية على كثير من الشعوب، لما يوجّهه من مسارات يرسم معالمها وفق تطوّره، يستولي من خلال ما يتضمّنه من برامج على كل ما له علاقة بالتفكير والنوايا وتصديق وتكذيب الخبر، حتى إنه دخل أدقّ التفاصيل الحياتية للناس، دخل البيوت وأصبح موجّهًا خطرًا لأسلوب حياة العائلة والعلاقة أيضًا بين الأفراد والجماعات. هذه المساحة الافتراضية تدور بنا حول العالم لنتعرّف على بؤسٍ هنا ورفاهيةٍ هناك، نتعرّف على الأنظمة السياسية الراعية لشعوبها والأخرى المستبدة التي تمارس أبشع الممارسات تجاه مواطنيها. يسافر بنا حول الطبيعة والأنهار والمروج الخضراء والأمزجة الهادئة التي تتمتع بمناخٍ جميلٍ معتدل، وبين المناخات الحارة التي باتت شعوبها تشعر بأنها غريبة في أوطانها. كل ما يتناوله بالحقيقة أثّر بشكلٍ كبيرٍ على المدركات العقلية، مما يفسح المجال لأولئك الذين اقتحموا حياة الناس، وأدقّ التفاصيل الخاصة باتت تُناقش على شاشات ومع أناس لا نعرفهم ولم نلتقِ بهم يومًا لنعرف ردود أفعالهم الملموسة التي بالضرورة مشاهدتها والتعرّف عليها.
لسنا ضد التطور والحداثة والتنمية، لكن لابد أن نجعل من العقل رقيبًا على ما يحدث في هذه الساحة الافتراضية قبل الرقابة القانونية والاجتماعية، أن يكون العقل الحصن من جراء التشوّهات الإلكترونية التي مارستها مجاميع قاصدة زرع نظامٍ ملؤه فوضى وعبثية غير مبرَّرة. ما يحدث أشبه بمسابقة نحتٍ تارة على الحجارة بأدوات نحتٍ طينية، وتارة نحتٍ على الطين بأدواتٍ تُستعمل للنحت على الحجارة، وبين هشاشة الجسد وهوان الأدوات ضاعت الإمكانيات الحقيقية في نحت مجسّمٍ متناسق، لا نقول مثاليًّا لكنه بالحقيقة مشوّه غير قابل للفهم ولا حتى التصوّر. وبسبب سوء الفهم والاستخدام تم تطويع التطور لصالح نظامٍ غير متوازنٍ بعيدٍ عن الاستقرار العقلي على أقل تقدير.
سياسة الميديا اليوم هدفها التأثير في سلوكيات الأفراد، ناهيك عما يحدثنا عنه علماء النفس والمتخصصون فيما له أثر على سائر العادات التي باتت تطلب المستحيل، بعد أن تم الانتقال من التفكير المنطقي الواقعي إلى التفكير الخيالي الافتراضي، ليتم تسليع كل شيءٍ يقفز من هذه الشاشة للمشاهدة والمتعة، لا لشيء إلا لقتل الفراغ الذي نعيشه بين مرحلةٍ وأخرى من حياتنا التي تضخّمت بسبب انشغالات سطحية في الغالب لا معنى لها. حيث تساهم الميديا اليوم في خلق أسواقٍ متعددة: واحدة للسياسة، وأخرى للاقتصاد، وثالثة للإرهاب والعنف، وأخرى للعلاقات الشخصية، ولا ننسى سوق تسليع الإنسان من الجنسين بمسمى المحتوى والترند والإعلان الجسدي. بالمقابل نجد كل ما يتعلق بالتسامح والثقافة والفنون والعلوم، من كل ما تشتهيه الأنفس الشفافة، لا معنى له في هذه اللوثة الفكرية الحاصلة، وإن وجد فهو للقلة المهتمة. وما علينا إلا أن نختار ما نحب، نعم، ما نحب أن نشاهده لا ما نفعله. كل ما في الموضوع أننا نستهلك أرواحنا من خلال كبسة زرٍّ افتراضي أيضًا، لنكون قد كتبنا بالسلب والإيجاب رأيًا قد يكون لا قيمة له، وقد يكون تحريضيًا إلى درجة القبح، وقد يكون رأيًا يجمع الإعجاب ضمن مساحة جمع أفرادٍ حتى من غير الممكن أن يتفاعل معك نفسيًا.
بسبب هذا التطور بدأت الأجيال تتصرف بانعدامٍ للعاطفة مرعبٍ جدًا، تترجم كل مدخلٍ لعقولها على أنه جزءٌ كبيرٌ من واقعٍ لابد من تأكيده، حتى إنها باتت تؤثر على جزءٍ من التفكير والشخصية، وما يطرأ عليهما من تحولاتٍ بالكامل. إذا ما أردنا أن نستفتي بين الناس لنرى كم فردًا على هذه البسيطة يحسب عدد الساعات التي تكون يداه فارغتين من حمل الهاتف والتصفح الإلكتروني، سنجد النسبة الأكبر تتصفح حتى لا تعمل. بالتأكيد إنها تقتل الفراغ الذي هو بالأساس قد يكون وقت عملٍ في بيتٍ أو منظمةٍ أو مؤسسةٍ أو جامعة… إلخ. أصبح من الغريب جدًا أن نجد فردًا لا يستخدم مواقع التواصل والميديا على اعتبارها ممارسة يومية، إذا كنا لا نعدّها عادةً لصيقة من صنع التطور والحداثة. وأصبح الأغرب أنك لا تستطيع إلا أن يكون لك آلاف الأصدقاء والمتابعين، والهمّ الأكبر هو المراقبة لعدد الإعجابات التي قد تردنا عند كتابة شيءٍ معين قد لا يناسب الآخرين. باتت الميديا في مساحتنا الفكرية منتِجة لعدم الاستقرار ومنتِجة للسطحية الفكرية، وساعدت بكل الطرق على إغلاق النوافذ على فهم الكثير من الأحداث، سواء التي نعيشها ونعاني منها أو القضايا التي تدور في هذا العالم.
الميديا اليوم تُحارب من خلال خوارزمياتها كل ما له علاقة بالثقافة والعلم والتطور الذهني الخلّاق، وتعمل على جعل الفرد أسير موضوعاتها، التي هي في الأساس ما نحاول أن نؤكده في حياتنا من خلالها، بعد أن تركزت كل مدركات البشر على مترفات ما يُعرض من خلال مقاطع قصيرة أثّرت بشكلٍ واضحٍ حتى على أسلوب حياة الناس. سياسة الميديا بقصدٍ أو من غير قصدٍ ساعدت على ربط الرأي باللسان، وغيّرت طرق التفكير العقلي من خلال إعادة تشكيل المتبنيات الإنسانية. بالمحصلة، فإن مضاد هذه السياسة لا يقتصر على السياسات الحكومية في العالم التي تتابع كل ما له علاقة بتهديد المجتمعات، من حيث قراءة كل الجوانب السلبية التي يعتمدها الناس بناءً على تكوين التصورات من خلال الميديا. بالنهاية، عملية التسطيح التي تستهدف العقول من خلال الهوس المرعب بالميديا التي تتجرأ على اختراق التفكير والمخيلة، لها دورٌ فاعلٌ في تكوين الفوضى الاجتماعية - السياسية التي يعيشها العالم.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

"دبلوماسية المناخ" ومسؤوليات العراق الدولية

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram