سعد سلّوم
تُظهر القراءة في التحوّلات الأخيرة التي شهدها النظام الانتخابي بعد تعديل قانون الانتخابات عام 2023 أنّ العملية السياسية عادت إلى بنيتها التقليدية القائمة على ترسيخ القواعد الطائفية والمناطقية. وقد تكرّس هذا الاتجاه مع اعتماد نظام "سانت ليغو" المعدّل (1.7)، الذي صبّ في مصلحة الأحزاب الكبرى، ومعه استُعيدت شبكات النفوذ الزبائنية بوصفها الضامن الأساس لتوزيع المقاعد. في هذا السياق، غاب الخطاب الوطني الجامع لصالح التعبئة الهويّاتية الضيقة، وبرز التنافس داخل المكوّنات نفسها لا بينها، بما جعل الانتخابات وسيلة لإعادة توزيع النفوذ داخل كل مكوّن، لا لإنتاج مشروع وطني شامل.
لكن هذا النمط من السياسة يفتح، في المقابل، إمكانًا افتراضيًا مغايرًا: ماذا لو اختارت الأحزاب استثمار قضية الأقليات كمدخلٍ لإعادة بناء شرعيتها السياسية؟ إذ يمكن لموضوعة "حماية التنوع العراقي" أن تؤدي دورًا مزدوجًا: داخليًا بوصفها أداة لإعادة الثقة بالعملية الانتخابية، وخارجيًا بوصفها مصدرًا لاكتساب شرعية إنسانية تتناغم مع المعايير الدولية في حقوق الإنسان والتعددية.
تشير البيانات الرسمية إلى أنّ مجموع مرشّحي الأقليات في الانتخابات العراقية بلغ 53 مرشّحًا يتنافسون على 9 مقاعد كوتا، خُصّص منها خمسة مقاعد للمسيحيين موزعة على محافظات بغداد، نينوى، كركوك، أربيل ودهوك، وأربعة مقاعد أخرى لبقية الأقليات بواقع مقعد واحد لكل من: الأيزيديين في نينوى، الصابئة المندائيين في بغداد، الشبك في نينوى، والكرد الفيليين في واسط. أمّا من حيث التوزيع العددي للمرشحين، فقد ترشّح 14 مندائيًا لمقعد واحد، و9 من الكرد الفيليين، و7 من الأيزيديين، و4 من الشبك، و19 من المرشحين المسيحيين، إضافةً إلى آخرين خاضوا السباق الانتخابي ضمن قوائم وتحالفات كبرى خارج نظام الكوتا.
تكشف هذه الأرقام عن مفارقة بنيوية في المشهد الانتخابي للأقليات؛ فبينما يُفترض أن تمثّل الكوتا آلية لضمان المشاركة وحماية التنوع، فإن كثافة التنافس داخل المكوّنات الصغيرة نفسها تعكس حجم التشظّي السياسي والانقسام الهويّاتي داخل كل مكوّن، بما يحوّل التمثيل من وسيلة للتمكين إلى حقل صراع مصغّر يعيد إنتاج منطق الانقسام الوطني على نطاقٍ أضيق. وهكذا يغدو التمثيل الرمزي، بدل أن يكون مدخلًا لتعزيز المشاركة السياسية، تحديًا إضافيًا أمام بناء حضور مؤثر وموحّد للأقليات في الفضاء البرلماني.
التحليل السياسي والاجتماعي لوضع الأقليات
يعكس المشهد الانتخابي للأقليات في العراق طابعًا رمزيًا أكثر منه سياسيًا فعليًا، فبرغم تخصيص مقاعد للكوتا، يبقى تأثير هذه المكوّنات محدودًا ضمن نظامٍ طائفي يعزّز هيمنة الكتل الشيعية والسنية والكردية، ويمنح الأحزاب الكبرى أفضلية حاسمة في ظلّ قانون "سانت ليغو" المعدّل. هذا الإطار البنيوي يُضعف حضور الأقليات التي تفتقر إلى قواعد جماهيرية واسعة، ويجعل مشاركتها أقرب إلى تمثيلٍ شكلي منه إلى مشاركةٍ فاعلة في صناعة القرار. وفي السياق ذاته، يُكرّس الخطاب الانتخابي العام الانقسام الهويّاتي، إذ باتت الحملات تُدار بمنطق الطائفة والانتماء لا ببرامج وطنية شاملة، ما يدفع الأقليات إلى الانكفاء ضمن حدود "تمثيلها الرمزي" بدل الانخراط في مشروعاتٍ سياسيةٍ جامعة.
يفاقم هذا الوضع التشظّي الداخلي داخل المكوّنات الصغيرة نفسها، حيث يتنافس عدد كبير من المرشحين على مقعد واحد كما في حالة ترشّح 14 مندائيًا لمقعد الكوتا الوحيد، في انعكاسٍ لصراعات نفوذٍ وانقساماتٍ داخلية تُضعف الصوت الجماعي للمكوّن. وإلى جانب ذلك، تكشف التجربة عن هشاشة التحالفات العابرة للطوائف؛ فالمبادرات المدنية مثل "تحالف البديل" و"التحالف المدني الديمقراطي" لم تتمكّن من استقطاب الأقليات بفعالية بسبب غياب بنية سياسية مستدامة خارج نظام الكوتا. ونتيجةً لذلك، يتكرّس نمط من التمثيل الشكلي الذي يعيد إنتاج الوجود الرمزي للأقليات داخل البرلمان من دون أن يترجم إلى نفوذٍ حقيقي أو شراكةٍ سياسيةٍ مؤثرة، لتبقى مشاركتهم محصورة في حدود الاعتراف القانوني لا في فضاء التأثير الوطني.
من الامتياز الطائفي إلى العدالة التعددية
يقوم الخطاب الانتخابي في العراق على إبراز الامتيازات المذهبية أو القومية لكل مكوّن، وهو ما أفرز رؤيةً عمودية للمجتمع تقوم على الهرمية والانغلاق بدل المشاركة الأفقية في الفضاء الوطني. فكل كتلة سياسية تحاول تسويق نفسها بوصفها الممثّل "الشرعي والوحيد" لجماعتها، مستندةً إلى سردية المظلومية التاريخية أو إلى ثنائية الأغلبية والأقلية العددية. بهذه الطريقة يتحوّل التنوع من طاقة إثراء إلى مصدر تنافسٍ وانقسام، ويتكرّس منطق المحاصصة بوصفه القاعدة المؤسسة للشرعية السياسية.
إنّ إعادة توجيه الخطاب السياسي نحو العدالة التعددية تمثل محاولةً لتجاوز هذا الإرث الطائفي عبر تحويل مفهوم التمثيل من احتكارٍ لهويةٍ مغلقة إلى شراكةٍ في وطنٍ جامع. العدالة التعددية لا تنكر الاختلافات، بل تعترف بها وتحوّلها إلى عناصر تفاعلٍ وإبداعٍ سياسي، بحيث يُقاس نجاح الدولة بقدرتها على ضمان المساواة في الكرامة والحقوق بين مكوّناتها، لا بعدد المقاعد التي تحصدها كل طائفة. ومن شأن هذا التحول أن يعيد تعريف العلاقة بين الأغلبية والأقليات، فبدل أن تقوم على منطق الامتياز أو الوصاية، تُبنى على منطق المسؤولية المتبادلة في حماية النسيج الاجتماعي.
وعلى المستوى العملي، يمكن للخطاب الانتخابي أن يترجم هذه الرؤية من خلال التركيز على قضايا المواطنة والخدمات والتنمية العادلة في المناطق المتنوعة دينيًا وإثنيًا، بدل الاكتفاء بشعارات الهوية والانتماء. فالأحزاب الكبرى، سواء كانت شيعية أو سنية أو كردية، تستطيع أن تعيد تعريف شرعيتها عبر تبنّي قضايا الأقليات بوصفها اختبارًا لأخلاقها السياسية، أي أن تصبح حماية الفئات الأضعف معيارًا للمسؤولية الوطنية، لا مجرد ورقة تزيينية في الحملات الانتخابية.
كما يمكن للعدالة التعددية أن تمثّل نقطة التقاءٍ بين التيارات المدنية والدينية، لأن جوهرها يقوم على مبدأ المساواة في الفرص والمكانة لا على إلغاء الهويات. فتبنّيها يفتح المجال أمام صياغة عقدٍ اجتماعي جديد يربط التنوع بالعدالة، ويعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة من خلال سياسات دمجٍ حقيقية في التعليم والإدارة والتمثيل السياسي.
إنّ الانتقال من منطق الامتياز الطائفي إلى العدالة التعددية لا يعني فقط تغيير الخطاب، بل يتطلب تغييرًا في البنية الذهنية للنظام السياسي نفسه، بحيث تتحوّل الانتخابات من سباقٍ على حصة المكوّن إلى منافسةٍ على خدمة المواطن أيًّا كانت طائفته. عندها يمكن للعراق أن يخطو نحو مفهومٍ جديدٍ للشرعية السياسية يستند إلى القيم لا إلى الانتماءات، وإلى المشاركة لا إلى المحاصصة، وإلى وحدة التنوع لا إلى توازن الخوف.
الأقليات كمدخلٍ لإعادة تعريف الهوية الوطنية في العراق
يمكن لاعتماد إستراتيجيةٍ انتخابيةٍ تستند إلى تمثيل الأقليات أن يعيد رسم الخريطة السياسية في العراق جذريًا، من خلال تحفيز نشوء تحالفاتٍ عابرة للطوائف والمناطق تتجاوز الانقسام التقليدي بين المكوّنات الكبرى. فمثل هذه التحالفات، التي تضم قوى مدنية وشخصيات من الأقليات ومكونات شبابية منبثقة عن احتجاجات تشرين، يمكن أن توحّدها برامج عملية واضحة مثل حماية حرية المعتقد، وتشريع قانون مناهضة التمييز، وتعزيز الكوتا النوعية للنساء والأقليات، وربط الإعمار بالمواطنة الشاملة. عندها تتحوّل الانتخابات من منافسةٍ على مقاعد السلطة إلى تنافسٍ على الرؤية الوطنية، ويصبح التعدد قاعدةً للعمل السياسي لا قيدًا عليه.
لكن النظام الانتخابي القائم اليوم، الذي يعيد ترسيخ نفوذ الأحزاب الكبرى عبر معادلة "سانت ليغو" المعدّلة، ما زال يربط الشرعية السياسية بالعدد لا بالقيم، ويحول دون تمثيلٍ فعّالٍ للأقليات أو المستقلين. وهكذا يبقى نظام الكوتا ضمانًا شكليًا للحضور القانوني أكثر منه أداةً للتمكين الحقيقي في صنع القرار. في المقابل، فإن تبنّي قضية الأقليات من منطلقٍ وطني وإنساني يمكن أن يشكّل نقطة انطلاقٍ لإعادة بناء الشرعية السياسية على أسس العدالة والمساواة والاحترام المتبادل، مانحًا العملية السياسية بعدها الأخلاقي الذي افتقدته في مراحل سابقة.
إنّ إدراج قضية الأقليات في صميم الإستراتيجية الوطنية يعني تجاوز فكرة الكوتا الرمزية نحو تمكينٍ فعليٍ في صناعة القرار والسياسات العامة، بحيث يُعاد تعريف التمثيل السياسي بوصفه تعبيرًا عن المواطنة المتساوية لا عن توازن الطوائف، وعن المشاركة الفعلية لا الحضور الشكلي. وبهذا المعنى، تصبح حماية التنوع والاعتراف بالاختلاف عناصر أساسية لهويةٍ وطنيةٍ جامعة، تنقل العراق من منطق المحاصصة إلى منطق الشراكة، ومن شرعية العدد إلى شرعية العدالة التعددية. فالأقليات، بما تمثله من مرآةٍ أخلاقيةٍ للنظام السياسي، ليست مجرد فئةٍ تبحث عن تمثيل، بل ركيزة لإعادة تعريف الهوية الوطنية العراقية في بعدها الإنساني، حيث يصبح التنوع مصدر قوةٍ للوحدة، لا ذريعةً للانقسام.










