TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الأخلاق في ممارسة العمل السياسي في ضوء التجربة العراقية

الأخلاق في ممارسة العمل السياسي في ضوء التجربة العراقية

نشر في: 16 نوفمبر, 2025: 12:01 ص

عصام الياسري

قال رجل حكيم ذات مرة أن الهدف ليس إعادة تفسير العالم باستمرار، بل تغييره!.
تُعدّ الأخلاق في الممارسة السياسية من القضايا الجوهرية التي تحدد مسار تطور المجتمعات واستقرارها. فالسياسة من دون بعدٍ أخلاقي تفقد معناها الإنساني وتتحول إلى صراعٍ على النفوذ والمصالح. وفي السياق العراقي، تبرز أهمية هذا الموضوع على نحو خاص بعد عام 2003، حيث واجهت البلاد أزمة أخلاقية عميقة في الممارسة السياسية، انعكست على مؤسسات الدولة وثقة المواطن في النظام الديمقراطي المزعوم.
إن الأخلاق في العمل السياسي ليست ترفا فكريا، بل شرط أساسي لنجاح الدولة واستقرارها. فالممارسة السياسية التي تنفصل عن الأخلاق تُنتج الاستبداد والفساد، بينما تلك التي تستند إلى القيم تنتج العدالة والتنمية والكرامة. وعليه، فإن المشاركة الحزبية النزيهة والإدارة الأخلاقية لمؤسسات الدولة هما الركيزتان الأساسيتان لبناء ثقة المواطن وتحقيق المصلحة العامة.
فالأحزاب السياسية، بصفتها مؤسسات تمثّل المواطنين وتسعى للوصول إلى السلطة، يجب أن تمارس نشاطها وفق ضوابط أخلاقية مثل: الصدق والشفافية في الخطاب السياسي، تجنّب التضليل أو الوعود الكاذبة لجذب الناخبين. احترام المنافسة السياسية أي عدم اللجوء إلى التشهير أو العنف أو شراء الأصوات. الالتزام بالديمقراطية الداخلية بحيث تكون القيادة داخل الحزب قائمة على الكفاءة والاختيار الحر لا الولاءات الشخصية. خدمة المصلحة الوطنية لا يجوز أن تكون المصلحة الحزبية فوق مصلحة الدولة أو المجتمع.
منذ العصور القديمة، شغل مفهوم الأخلاق السياسية حيّزًا واسعا في الفكر الفلسفي. فقد رأى أرسطو أن الغاية من السياسة هي تحقيق الحياة الفاضلة، بينما اعتبر المفكر الاجتماعي العراقي علي الوردي أن الأخلاق يمكن أن تكون أداة مرنة تُخضع لمصلحة الدولة. وفي الفكر الإسلامي، نجد أن الفارابي وابن خلدون ربطا السياسة بالأخلاق ارتباطا وثيقا، إذ تُعدّ العدالة أساس العمران والاستقرار. ومع تطور الفكر الحديث، أصبح الحديث عن الأخلاق السياسية مرتبطا بمبادئ الحكم الرشيد، الشفافية، والمساءلة.
تختلف الممارسة الأخلاقية في السياسة باختلاف البنية الثقافية والحضارية لكل مجتمع. ففي الغرب، تطورت فكرة الأخلاق السياسية ضمن منظومة فكرية علمانية تركز على العقد الاجتماعي والمواطنة. أما في الحضارة الإسلامية، فالأخلاق السياسية ترتكز على مفهوم الأمانة والمسؤولية أمام الله والمجتمع. وفي العراق، الذي يجمع بين إرث حضاري عريق وتنوع ثقافي واسع، تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف العلاقة بين الأخلاق والسياسة بما ينسجم مع قيم العدالة والكرامة والهوية الوطنية.
منذ التغيير السياسي عام 2003، واجه العراق تحديات سياسية عميقة تمثلت في ضعف الثقة بين المواطن والدولة، وانتشار ظواهر المحاصصة والفساد، وتسييس مؤسسات الدولة. هذه الأزمات ليست فقط نتاج خلل مؤسساتي، بل تعكس انهيارا في المنظومة الأخلاقية التي يفترض أن تؤطر العمل السياسي. فغياب النزاهة والشفافية، وتغليب الولاءات الفرعية على المصلحة العامة، أدّيا إلى إضعاف الدولة وتعطيل التنمية. إن الأزمة الأخلاقية هنا ليست عرضا جانبيا في العراق، بل هي جوهر الأزمة السياسية ذاتها.
إن تجاوز الأزمة الأخلاقية يتطلب مشروعا وطنيا متكاملا يقوم على التربية المدنية، وتعزيز ثقافة المواطنة، وتفعيل مؤسسات الرقابة والمساءلة، وإعادة الاعتبار للقيم في الخطاب السياسي. كما أن الأحزاب السياسية مطالبة بإعادة بناء ثقة الجمهور من خلال الشفافية والديمقراطية الداخلية، بينما تتحمل مؤسسات الدولة مسؤولية وضع معايير أخلاقية واضحة في التعيينات والقرارات الإدارية.
الخاتمة: إن الأخلاق ليست ترفًا فكريًا في السياسة، بل هي أساس شرعية الحكم واستمرارية الدولة. وتُظهر التجربة العراقية أن أي عملية سياسية تُدار خارج إطار القيم ستؤدي حتما إلى أزمات بنيوية متكررة. وعليه، فإن استعادة البعد الأخلاقي في العمل السياسي تمثل الخطوة الأولى نحو بناء دولة عادلة وقادرة على تحقيق تطلعات مواطنيها.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

ثقافة إعاقة الحرية والديمقراطية عربيا

"دبلوماسية المناخ" ومسؤوليات العراق الدولية

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram