طالب عبد العزيز
قبل ثلاثة أيام من موعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة كنت في حوار مكتوب مع الشيخ مزاحم التميمي، المهندس البحري والضابط المدرِّس في كلية الأركان، ورجل القانون، وزعيم أكبر قبيلة عربية في الجنوب، والمتحدث بلغات ثلاث(الإنجليزية والروسية والعربية) وأول محافظ في البصرة بعد سقوط النظام، والنائب السابق في البرلمان، والشخصية الأبرز في البصرة والمثال الأول في الخلق والاستقامة والمشورة، فضلاً عن صفاته وعلومه في التاريخ والمدنية البصرية والعلم والحوار والانسانية... ولما أعرفه عنه من حبٍّ للغة العربية فقد كان الشعر مادة حوارنا وتذاكرنا معاً قصيدة دريد بن الصمّة، حتى أتى هو على البيت الشهير فيها:” أمرتهم أمري بمنعرج الِّلوى.. فلم يستبينوا النَّصحَ إلّا ضحى الغدِ” حتى تنبهتُ الى غصة في نفسه، وأنَّه مجبرٌ على الذهاب الى أمرٍ لا رغبة له فيه.
ثم جرت بما جرت الانتخابات عليه ولم يفز الشيخ! وماذا سيحدث لو أنه فاز؟ ألم يخسر عدنان الزرفي وسجاد سالم ورائد فهمي وشروق العبايجي والعشرات من المرشحين المدنيين؟ وأيّ معنى لخسارة كهذه؟ وهنا استل شيئاً من مقال للباحث د. فارس كمال نظمي بما يشبه الإجابة فهو يقول:” في اللحظة العراقية الحالية، لا يمكن الحديث عن إصلاح أو تغيير حقيقيينِ دونما الحديث عن الأخلاقيات. فكلما اشتد طغيان المصالح وازدهر التدليس السياسي لدى الحكام، اشتدت الحاجة لصيانة “الشرف السياسي” لدى المعارضين، بوصفه النقيض الذي سينقُضُ النقيضَ، مع كل ما يرافق هذا الشرف من تضحيات ومثابرة وأمل وإبداع سياسي..” ولا يكتفي بذلك إنما يكتب:” لذلك، وصِدقاً ووجداناً.. أودُّ أن أهنئ من يسمون أنفسهم بالـ”مدنيين” (أفراداً واحزاباً وتحالفات) بعدم الحصول على أية مقاعد نيابية ذات قيمة في الانتخابات الأخيرة” لأنّهم؛ بتعبير أدق” فازوا بنعمة البقاء خارج جدران الفساد السياسي المقنن والمقونن. وهذه فضيلة سعت إليهم على الرغم من أنَّهم لم يسعوا إليها، بل سعوا إلى نقيضها، لكنهم نجوا -مبخوتين- بفضل حماقة الخصم السياسي واستئثاره المطلق بالغنيمة.
شخصياً لا أجدُ أيَّ قرينةٍ عقلية أو إنسانية تجمعُ مزاحم التميمي مع غالبية الفائزين، فالرجل خارج القبلية وإن دخل الانتخابات -ضمناً-تحت المسمّى هذا، بل إنه أراد أن ينتقل بالقبيلة من حدود المشايخ والدواوين الى فضاء السياسة والمدنية والعلم. سنتذكر أنه وقف مصرحا علنا بالضد من (الدكة العشائرية) التي لم يتبرأ منها المئات من شيوخ الطوائف والمذاهب والقبائل، بمعنى ما أنَّ العشيرة التي (خذلته) كانت تريد منه أن يكون كغيره من الشيوخ! ثم أنّه لم ينخرط في سلوك المراهقة السياسية؛ الذي يقوم على المواجهات الإعلامية الزائفة او المبالغ بها كالوعود بالتعيينات، أو التمترس تحت اليافطات الطائفية،واستثمار العواطف والتناغم مع وعي الطبقة الدنيا. من غير الانصاف أن تقرن خسارة الشيخ التميمي بخسارات شيوخ العشائر الآخرين، إذا ما كان هناك من يقول بأنَّ الناخب العراقي وكدليل على رفضه النظام العشائري فقد (نكَّل) ولم ينتخب شيخ عشيرته، لأنَّ التميمي كان يسعى في مشروعه السياسي الى ما هو أبعد من أن يكون شيخاً لقبيلة كبيرة، وكدليل على ذلك فوز ثلاثة من مرشحي بني تميم( عدي عواد، أبو تراب، وزينب يعقوب) وبذلك ستكون القبيلة قد (عزفت)عن انتخابه، وذهبت الى ما يمسُّ وجدانها المُصغْر جداً(فرص عمل، حشد، وانتماء مذهبي).
يرى الأستاذ عادل صادق، مهندس في النفط، إنِّ الشعبية المجتمعية لا تعني بالضرورة القابلية الانتخابية؟ “الشيخ ابو ماهر معروف فعلا بنزاهته ووطنيته وابتعاده عن الصفقات، لكنه يواجه بيئة انتخابية تقوم على شبكات الزبائنية والمصالح أكثر من السمعة الأخلاقية”. والناخب في البصرة لا يختلف عن غيره، يصوّت في الغالب لمن يملك المال والخدمات المباشرة، ويمثله (عشائرياً) وإن بشكل مغلق .. وبمعنى آخر: “الاستقامة لا تُترجم تلقائيا إلى أصوات في نظام انتخابي مريض بالزبائنية و اللصوصية”. فيما يكتب رمضان البدران، وهو باحث معروف:”هي ليست انتخابات لأنَّها فزعة فرهود، ينال غنائمها الاكثرُ عددا او تنظيما .فلا أهداف، الوسائل هي الأهداف، وتدور حول نفسها، ومجتمعنا مصاب بحول يرى كل شئ الا نفسه، هذا الحال سيستمر طويلاً ويوغل اكثر واكثر في بدن الدولة».
في الحقيقة أنَّ وجود مزاحم الكنعان والكثير من الذين خسروا الانتخابات في تشكيلة البرلمان القادم لن تضيف شيئاً ذا معنى، لأنَّ مصالح الفائزين متشابهة، لذا فوجودهم هو الوجود الخطأ. مثله يصلح أنْ يكون عضواً في مجلس للمشورة، واتخاذ القرار النهائي، كما هو في ايران ( تشخيص مصلحة النظام) لا لطرح رأيٍّ يتداول في أروقة البرلمان، والذي غالباً ما يكون محسوما سلفاً بين الكتل، لأنَّ العملية السياسية بحسب أحد الباحثين استقرت على (احزاب و زبائن) و قدرة ايِّ حزب على البقاء و التوسع دورةً تلو الأخرى”. ولو فكّر بالنتئج كما يفكر غيره لكانت قائمة(تصميم) وهي الأقرب اليه، وضمن الفوز، أمّا مقولة كان عليه أنْ يعتمد على ناخبي عشيرته والوعود بالوظائف وشراء الأصوات، حين بلغ سعر الصوت 50 الف دينار(وهذا ما ليس له وجود في قاموس شخصيته) فهذه مما عمل عليها الكثير من الفائزين.
لا نريد أنْ تكون المقالة هذه شخصيةً بالقدر الذي نريد فيه فهم أجواء وآلية الانتخابات أولاً وعقلية الناخب العراقي ثانياً، الناخب الذي سيظل يلهث وراء ما يرمى له من فتات، غير مبال بما يُجرُّ الوطن اليه من فجائع. وإذا كنا نريد خاتمةً لما ذهبنا اليه يطيب لنا أن نتذكر ما قاله السيد محمد باقر الطباطبائي الحائري:”دع الدنيا وزينتها لوغدٍ وحاذرها إذا كنت الرشيدا/ أترجو الخير من دنيا أهانت حسين السبط واختارت يزيدا... «









