متابعة / المدى
منذ تأسيس مجموعة العشرين عام 1999 باعتبارها المنتدى الذي يجمع أهم الدول الصناعية والناشئة، حافظت المجموعة على مكانتها كمنصة محورية للتعاون الاقتصادي العالمي. فهي تضم 19 دولة إلى جانب الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، وتمثل أكثر من 80 في المائة من الناتج الاقتصادي العالمي. غير أنّ قمة جوهانسبرغ هذا العام تشهد سابقة غير معهودة، إذ يغيب عنها ثلاثة من أبرز القادة في العالم: الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الصيني شي جين بينغ.
ويأتي هذا الغياب في وقت يسعى فيه المستشار الألماني فريدريش ميرتس للترويج للتعددية، رغم غياب القوى الكبرى التي لطالما شكلت ثقلاً أساسياً داخل المجموعة. ففي الوقت الذي لم يقدّم فيه شي تفسيرًا لعدم مشاركته، يتجنب بوتين السفر منذ صدور مذكرة توقيف بحقه من المحكمة الجنائية الدولية بسبب الهجوم على أوكرانيا. أما ترامب، فقد اختار عدم إرسال أي وفد إلى جوهانسبرغ، مبررًا ذلك بالادعاء أنّ المزارعين البيض في جنوب أفريقيا يتعرضون للاضطهاد دون تدخل الحكومة هناك، وهو اتهام ترفضه بريتوريا والحكومة الألمانية بشدة.
ويصف أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هاله يوهانس فارويك هذا التطور بأنه انعكاس لعدم اكتراث «المتنمرين الثلاثة» في السياسة العالمية بمسار التعددية، معتبراً أن ذلك لا يبشر بخير بالنسبة للنموذج متعدد الأطراف الذي شكّل جوهر عمل مجموعة العشرين طوال سنوات. ويلفت إلى أن تغيّر موازين القوى العالمية يتسارع، وأنّ دول الجنوب العالمي باتت تظهر بثقة متزايدة، فيما لم يعد الغرب المنقسم كما كان سابقاً قوة مهيمنة.
ورغم هذا الواقع، يؤكد المستشار الألماني فريدريش ميرتس تمسكه بأهمية القمة، داعياً إلى عدم التركيز على الغائبين. وقال المتحدث باسم الحكومة الألمانية سيباستيان هيله إن برلين تعتبر المجموعة «صيغة أساسية» في عملها الدبلوماسي، رغم التحديات التي تحيط بالنظام الدولي متعدد الأطراف، والتي تفاقمت بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا. وتبرز الهند مثالاً لدول داخل المجموعة لم تدن الغزو، بل استفادت تجارياً من الوساطة في بيع النفط الروسي.
وتتزامن القمة مع تحولات جيوسياسية كبيرة، أبرزها الصعود الاقتصادي والعسكري للصين، التي تستخدم نفوذها المتعاظم سواء عبر دعم روسيا أو عبر فرض قيود على تصدير المعادن النادرة. وبحسب فارويك، فقد كانت مجموعة العشرين سابقاً منصة تجمع القوى القديمة والصاعدة لرؤية ما يمكن تحقيقه معاً، لكن هذا «انتهى الآن».
وتعتبر هذه القمة الأولى التي تُعقد في أفريقيا، وقد أعلن رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوسا عام 2024 أن بلاده ستضع «تنمية أفريقيا» في صلب جدول الأعمال خلال رئاستها للمجموعة. وتريد بريتوريا التركيز على دعم التحول نحو الطاقة النظيفة وتخفيف ديون الدول الفقيرة. لكن هذه الأجندة تحديداً، إضافة إلى الاتهامات الأمريكية بشأن «اضطهاد البيض»، كانت سبباً في رفض ترامب المشاركة.
في المقابل، شدد ميرتس قبل مغادرته برلين على أن القمة فرصة لتعميق الحوار مع الدول الأفريقية، مشيراً إلى أنه سيتوجه بعدها إلى أنغولا لحضور قمة الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، في خطوة قالت الحكومة الألمانية إنها تشكّل إشارة مهمة لتعزيز التعاون بين القارتين.
ويندرج ضمن أهداف جنوب أفريقيا أيضاً الحد من عدم المساواة في العالم، إذ انتقدت الدولة المضيفة ضعف الاهتمام بأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. وقبيل القمة، دعا أكثر من 500 خبير اقتصادي إلى تشكيل لجنة عالمية لمكافحة تركّز الثروة، محذرين في رسالة مفتوحة من أن تركّزها «يتحول إلى تركّز غير ديمقراطي للسلطة، ويقوّض الثقة ويغذي الاستقطاب السياسي». ويأمل هؤلاء في دعم المستشار الألماني، خصوصاً بعد مشاركة ألمانيا في تأسيس «التحالف العالمي ضد عدم المساواة» في يونيو الماضي.
ومع الخلافات العميقة بين الدول الأعضاء، بات واضحاً عدم وجود أفق لبيان ختامي مشترك، وستصدر فقط وثيقة من الدولة المضيفة. ويعتقد فارويك أن صيغاً أخرى مثل «بريكس بلس» ستكتسب وزناً أكبر، لأنها تتيح للصين وروسيا الابتعاد عن «محاضرات الغرب». ويرجّح أيضاً تصاعد التحالفات المرنة القائمة على المصالح، ما يعكس — وفق تعبيره — اتجاه العالم نحو «عودة الغابة»، حيث تحلّ المعاملات البراغماتية محل النظام الدولي القائم على القواعد.
ورغم كل التحديات، يخلص فارويك إلى أنّ ألمانيا لا تملك بديلاً فعّالاً عن الاستمرار في الاعتماد على أطر مثل مجموعة العشرين، مهما تراجعت قوتها وتأثيرها.










