ميسون الدملوجي
قبل سفري الى البرازيل في شهر تشرين الثاني 1983 كتبت رسالة بالبريد الى د. محمد مكية بخط اليد وباللغة العربية عرفته فيها على نفسي، وطلبت أن يمنحني فرصة للتدريب في مكتبه (مكية ومشاركوه ) بعد أن أطلعه على مشاريعي المعمارية الدراسية، وأخبرته بسفري الى البرازيل وموعد عودتي يوم 12 شباط 1984. وحينما عدت من السفر وجدت منه رسالة يقول فيها انه قبلني للتدريب في مكتبه، ولا داعي لإطلاعه على مشاريعي الدراسية، وقال انه معجب بخط يدي الذي كتبت به الرسالة وهذا يكفيه. وحدد موعداً لمقابلتي صباح اليوم التالي لعودتي، اي 13 شباط 1984.
وخط يدي الذي أعجبه هو تطوير حديث للخط الكوفي استنبطه القسم المعماري في كلية الهندسة في جامعة بغداد حينما أسسه د. مكية عام 1959، وتنساب فيه الأحرف بأشكال دائرية هندسية فيجعل قراءته سهلة وممتعة.
يشغل مكتب مكية ومشاركوه مبنى تاريخياً عمره أكثر من مئة عام ويقع في منطقة بيزووتر غربي لندن. كان المبنى يستخدم في القرن التاسع عشر كصالة لحفلات الموسيقى في الطابق الأرضي، وللسكن في الطوابق العليا، وتحمل واجهته منحوتات لوجوه الفنانين الذين كانوا يعزفون في تلك القاعة. قام د. مكية وابنه كنعان بتحويل الطابق الأرضي الى مكتبة الساقي الشهيرة، وأصبحت صالة كبيرة تقع خلف المكتبة ديوان الكوفة، تيمناً بأول مدينة في الإسلام بناها الخليفة عمر (رض)، وكانت مركزاً للفكر والعلوم، وينسب اليها الخط العربي الكوفي. الطابق الأول من المبنى كان مكتب د. مكية ومساعدته الايرانية ديدي مالك ومكتبته العامرة بالكتب النادرة، تعلوها ثلاثة طوابق لمشاغل المعماريين، وكان عددهم يقارب 40 معمارياً من مختلف أنحاء العالم، وشغل الطابق الأعلى شقة سكنية يستخدمها المعماريون اذا اضطروا الى المبيت في المكتب لإنجاز المشاريع. وكنا شباباً، نركض صعوداً وهبوطاً بين الطوابق دون الشعور بأدنى تعب، وذلك لعدم وجود مصعد.
أتذكر من المعماريين العراقيين زينة عبدالأميرعلاوي وكانت مشرفة على مشروع جامعة الرشيد، والمعمار سمير داود سيروب، والمعمارية ميادة سعيد علي مظلوم. وفي فترات لاحقة جاء معماريون عراقيون كثيرون منهم مصطفى صباح جمال الدين.
مكتب مكية ومشاركوه كان في الثمانينيات زاخراً بالمشاريع الكبرى، منها مشروع الجامعة العربية في تونس والأوابك في الكويت وجامعة الرشيد وجامعة صلاح الدين في العراق ومبنى الحصن في أبو ظبي، وغيرها. وكان المكتب يشارك في مسابقات معمارية عالمية، ويكسبها كل مرة تقريباً. ولكل مشروع فريق يرأسه أحد المعماريين.
كنت الأصغر والمتدربة الوحيدة في المكتب، وأمتلك حباً للعمل وطاقة شبابية، لهذا كان المعماريون يسعون الى انضمامي الى فريقهم، وأحياناً كنت أعمل ضمن أكثر من فريق في الوقت ذاته. وكان د. مكية نفسه حريصاً على تعليمي، يزودني بالفرش والألوان المائية لتعميق الحس باللون والضياء، ويكلفني كثيراً في أعمال الرسم الحر. وكان لا يرضى بسهولة على تصميم المشاريع وحصيلتها النهائية، ويستمر بتعديل التصميم الى اللحظات الأخيرة.
أذكر مرة أنجزت إحدى الفرق مشروعاً معمارياً لمسابقة، وكان عملاً مضنياً استغرق الفريق المكلف سهر عدة ليالٍ في المكتب. وفي ليلة قبل الموعد النهائي للتقديم وصل الموديل من صانع موديلات محترف، وكان حجمه كبيراً، حوالي 3 أمتار بمترين، وتطلب رفعه بحذر الى مكتب د. مكية في الطابق الأول عدة شباب مفتولي العضلات. كنا واقفين نترقب د. مكية وهو يتفحص الموديل بصمت، ويدور حوله ببطء، وإذا بيده تمتد وتقتلع صفاً طويلاً من النخيل وجزءً من المبنى، فانفجر رئيس الفريق بالبكاء مثل الأطفال حزناً على التدمير الذي أصاب تصاميمه!
يستحق د. محمد مكية الوقوف عنده كثيراً، ليس لكونه معمارياً ومعلماً فذاً فحسب، وإنما لشخصيته الفريدة أيضاً، ولفضله الكبير على الجالية العراقية التي ساهم في لم شملها في ديوان الكوفة لمدة تقارب على عقدين من الزمن، ودورها الكبير في نشر الوعي والثقافة والفنون الرصينة.
لم يكن د.مكية يهتم بعلاقته المهنية مع المهندسين في مكتبه فحسب، وإنما كان يعتبرهم امتداداً لعائلته، ويدعوهم باستمرار الى بيته الجميل في ضاحية همبستد ، وكذلك الى بيته الريفي في كوتسولدز لقضاء يوم جميل بأنواع الطعام والشراب، ويشرف هو وزوجته ام كنعان على راحة كل فرد من الضيوف. ومع ان أم كنعان بريطانية، الا انها كانت تجيد العربية بحكم سكنها وعملها بالتدريس الجامعي في العراق لسنوات طويلة، وكانت ترغب أن نسميها أم كنعان بدلاً من مسز مكية أو مارغريت. وكانت تختار المفردات التي لا يعرفها الا البغداديون الأقحاح، فنضحك إعجاباً بإلمامها للهجتنا. وأتذكر يوماً انضمت موظفة عراقية للمكتب كان أسمها مديحة، فسألتها أم كنعان: شنو اسمك بالخير؟
كان د. مكية مولعاً باقتناء الأعمال الفنية والكتب والانتيكات الإسلامية من المزادات العالمية، وكان بيته ومكتبه مملوءان بها. وعنده سائقان أحدهما انكليزياً واسمه دوغ، والثاني اسكتلندي واسمه يوجين. كان د. مكية يأتي صباحاً الى المكتب مع يوجين محملاً بأنواع الانتيكات والتحفيات من بيته، وبعضها ثقيلة الوزن مما يتطلب إصعادها الى الطابق الأول بضعة أشخاص، ثم تأتي أم كنعان مع دوغ بعد ساعة وتعيد الأغراض الى المنزل. كانت قصص دوغ ويوجين ونقل التحفيات تزود المهندسين وبقية الموظفين بمادة للمزاح بشكل شبه يومي.
علاقة د. مكية بالكتب غريبة جداً. كان يشتري مكتبة كاملة مكونة من مئات الكتب في المزاد من أجل كتاب أو كتابين أو مخطوطة، ويرمي البقية. وما أن يحصل على الكتاب المرجو حتى يبدأ تقطيعه من أجل الصور أو الرسومات التي تعجبه، وكان على مساعدته ديدي إنقاذ الكتب من سطوة مقصه. وتجمعت بمرور الزمن لديه مكتبة غنية جداً بكتب ومخطوطات نادرة.
سافرت مرة الى أبو ظبي لزيارة الأهل، فكلفني بالاتصال بالجهات الرسمية فيها باعتباري أمثل المكتب للتفاوض في أمور تخص مشروع مبنى الحصن، وهو مبنى يعتبر تأريخياً بالنسبة لأبو ظبي، بل ربما هو أقدم مبنى شاخص فيها، وعمره يقارب مئة عام. أسعدني كثيراً هذا التكليف والثقة التي منحني إياها مع انني كنت ما أزال طالبة، وقمت بواجبي على أفضل وجه.
ومن خلال د. محمد مكية تعرفت على ابنه كنعان الذي كان يسكن في أمريكا، ومتزوجاً من سيدة إيرانية، وله منها ولد وبنت. وفي نهاية عقد الثمانينيات صدر كتاب جمهورية الخوف لكاتب مجهول اسمه سمير الخليل انتشر بلغات العالم المختلفة لما يحمله من كشف لجرائم اقترفها نظام صدام حسين في العراق. وكان فريداً من نوعه انذاك لما يقدمه من معلومات ووثائق. أسرتني ابنة عمي سلمى سمر الدملوجي ان سمير الخليل هو ذاته كنعان مكية، وطلبت مني أن لا أخبر أحداً، وبالفعل كتمت السر. مرت الأشهر، وفي إحدى الأيام قبيل حرب عام 1991، شاورني د. محمد مكية: هل تعرفين ان سمير الخليل هو إبني كنعان؟ أجبته بالإيجاب، فشمر يديه غضباً وقال: كل الناس تعرف الا انا!
كان د. مكية يتحدث كثيراً عن مشروع جامعة الكوفة الذي كان يزمع على انشائه مع مجموعة كبيرة من الشخصيات الليبرالية في ستينيات القرن الماضي، الا ان حكومة البعث منعتهم من ذلك واعتبرته مثيراً للطائفية. وكان يربط المشروع بفكرة اللا مركزية الإدارية، واعترف انني لم أستوعب أفكاره تلك الا بعد أن مرت السنوات وخضت التجربة السياسية، وصرت اليوم أعتبر ان المشروع كان فرصة ضائعة لترسيخ تيارات مجتمعية منفتحة وواعية، تكون مرادفاً للأفكار القائمة، وقد ترتقي بها.
وبسبب ذلك المشروع، وربما لأسباب أخرى، كان د. مكية يتهم بالطائفية أحياناً، حتى انه خصص فصلاً كاملاً من مذكراته (خواطر السنين) التي كتبها د. رشيد الخيون لنفي تلك التهمة عنه. والحقيقة انه كان يتعامل مع الموضوع بواقعية وبعد نظر تختلف عن المثالية التي يتحدث بها منتقدوه. سمعته أكثر من مرة يهاجم جهل بعض المتعصبين، فيقول: اتركوا التاريخ وتعلموا شيئاً من الجغرافيا، كي تنقذوا بها بيئتكم الطبيعية والعمرانية والثقافية والفكرية. بل سمعته مرة يؤنب بعضهم بقسوة بالقول: ألم تستحوا من كتابة اسم الجلالة بمصابيح النيون فوق المباني المقدسة؟ هل الله بالنسبة لكم يحتاج الى دعاية مثلما قنينة كوكا كولا؟ وتتهموننا بالكفر؟ بل أنتم الكفرة لما تحملونه من جهل!
الحقيقة انه كان مثقفاً وشجاعاً، ويمتلك رؤى مستقبلية كان الأجدر الأخذ بها بدلاً عن تهميشها أزاء أفكار طوباوية جميلة ولا تمت للواقع بصلة.
وكان د. مكية يسدي الي النصائح، بالعمارة والحياة، وأذكر منها قوله ان أطمئن الى من كان يسارياً بشبابه، حتى لو صار يمينياً بعدها، فهو يمتلك ضميراً وقيماً عالية، وأن أبتعد عمن كان يمينياً بشبابه حتى لو صار يسارياً بشيخوخته.
عدت الى الكلية في بداية العام الدراسي الجديد ونلت شهادة البكالوريوس في نهاية ذلك العام، واستمرت علاقتي المهنية مع د. مكية طويلاً حتى بعد أن أسست مكتباً استشارياً خاصاً بي بعد عدة سنوات، وعملت معه في مشاريع مختلفة وفي قاعة الكوفة والمسابقات المعمارية. وكنت أزوره باستمرار بعد 2003، فيؤنبني على ما وصلت اليه بغداد، والفوضى العمرانية، ولا يقتنع بأنني لست قادرة على تصحيح الخراب. وكان يحيط نفسه بالكتب والأوراق والكومبيوتر ليخطط مستقبل مدينته الأثيرة العمراني والبيئي، ويجعلها غابات من نخيل، مردداً الحديث النبوي (أكرموا عمتكم النخلة). أما العلاقة الاجتماعية، واحترام الطالبة لإستاذها فلقد استمرت حتى بعد رحيله عن عمر 101 عاماً في 2015، ولم أنقطع عن السؤال عنه أبداً.











جميع التعليقات 3
كنعان مكية
منذ 4 أسابيع
مقالة رائعة عزيزتي ميسون تحياتي الحارة كنعان
Abdulaziz Alzaibag
منذ 3 أسابيع
المعمارية العزيزه ميسون الدملوجي المحترمة ….. وصلتني هذه الرساله من صديقي رياض الخالصي أراه عند زيارتي لندن من الرياض حيث يوجد مكتبي . كلامك الرائع عن استاذنا د. محمد مكية رحمه الله فيه شجون عميقه تعود ليوم كنت طالب معماري سنة 1967. تحيه طيبه
عبد العزيز الزيبق
منذ 3 أسابيع
تحيه طيبه المعماريه ميسون الدملوجي المحترمة كلام ذو شجون عميقه عن استاذنا د. محمد مكيه رحمه الله. وصلني من الصديق رياض الخالصي . نلتقي بزيارتي لندن من الرياض . اتمنى لك التوفيق وطول العمر