ستار كاووش
تركتُ خلفي النافورة الحجريّة التي بلل رذاذها التماثيل القديمة المحيطة بالمكان، وأكملتُ طريقي بإتجاه الكاتدرائية التي تعتبر أكبر بناء في مدينة كولن، بل أكبر كاتدرائية في العالم، حيث ترتفع ١٤٤ متراً. ورغم بعض الساحات الصغيرة والشوارع التي كانت تفصلني عنها، فقد لاحت لي الكاتدرائية من بعيد بلونها الرمادي الذي امتزج بالفضاء وكأنها واحدة من لوحات مونيه أو بيسارو الانطباعية. وبمناسبة الحديث عن الكاتدرائية، فهي تختلف عن الكنيسة، فالأولى تضم مقر الأسقفية، فيما الكنيسة مجرد مكان للعبادة. لذا كل كاتدرائية هي كنيسة، لكن ليست كل كنيسة كاتدرائية. وعادة ما تكون الكاتدرائية ضخمة مهيبة البناء وفيها الكثير من النوافذ الزجاجية الملونة، وغالبيتها يعود تاريخ بناءها الى الطراز القوطي القديم. وتسمية كاتدرائية جاءت من كلمة كاتيدرا اليونانية القديمة، والتي تعني المقعد، أي مقعد الأسقف. أما الأسلوب القوطي فقد ظهر لأول مرة في فرنسا بالقرن الثاني عشر، حيث تعتبر كاتدرائية سينس أول كاتدرائية تم بناؤها بهذا الطراز. ولهذا السبب كان الإنجليز يطلقون على الطراز القوطي تسمية العمارة الفرنسية.
يبدو أن من الصعوبة إيجاد بناء قائماً هنا أقدم من هذه الكاتدرائية التي تحولتْ الى رمز ثقافي ومعماري وسياحي أيضاً، والتي بدأ بناءها في 15 أغسطس 1248، أي قبل ثمانمائة سنة. وقد إُضيفتْ أبراجها على الطراز القوطي الجديد بعد سنوات من ذلك. وحين إقتربتُ من الكاتدرائية، وقفتُ أمامها أو بالأحرى تحت عباءتها، فشعرتُ بأني جزء من كتاب يعود للعصور الوسطى، حيث شملتْ رهبة الكاتدرائية كل المكان وغطت كل شيء بما فيها السماء البعيدة التي تنذر بالمطر. لا يمكن تصور كيف يمكن للبشر الذين هم مثلنا أن يبنوا مثل هذا البناء وينجزوا مثل هذه العمارة. درتُ حول هذا البناء الضخم وشققتُ طريقي بين الناس الذين يتطلعون بإنبهار الى هذا الشكل الفريد، حيث يأتي ستة ملايين زائر سنوياً لزيارتها والتمتع بعظمة بنائها وسحر تأثيرها الذي يبهر الأبصار ويغمر الفضاء ويطاول السماء.
ما أن وطأت قدميّ البوابة الواسعة ودخلتُ الى الكاتدرائية، حتى إحتضنتني الكنوز الفنية وأحاطتني اللوحات والتماثيل والزخارف، كأني أتجول في عالم آخر مفتوح الى ما لا نهاية. تنقلتُ من صالة إلى أخرى ومن ومن جدار لآخر، حيث تنتصب النوافذ الزجاجية التي يتخللها الضوء ويتلون بها الفضاء، أنظر إلى لوحات الموزاييك الواسعة التي رسمت على الأرضية وأتابع الجداريات الكبيرة التي تعود لما قبل عصر النهضة، وأتحسس عمق الزمن في الأثاث المصنوع من خشب البلوط. الأقواس هنا لها حكاياتها الموغلة في القدم، كذلك الأعمدة التي ترفع السقوف الشاهقة، لتمنحنا عمارة تشبه المعجزة. هنا تجمعت كل الفنون التشكيلية التي صُنعت بمواد لا حصر لها. فأي عالم هذا؟ وأي إعجاز بشري ينتصب على هذه الأرض؟ الجمال هنا يمتزج مع التاريخ، فيما الحكمة تقول كلمتها ممهورة بعباءة الزمن وكنوز العمارة. مضيتُ بضع خطوات لأقف أمام تمثال برونزي يمثل محارباً شاباً يميل برأسه حالماً، وفي الخلفية ينبثق الضوء الملون من احدى النوافذ المعشقة بالرصاص، فيتحرك المشهد برمته مثل حكاية أسطورية. تركتُ نعومة التمثال تتمرأى في ترف الضوء الملون، ومضيتُ أتابع لوحات الموزائيك التي إفترشت الأرضية وحوَّلَتْ مكان العبادة الى متحف مليء بالانسجام والمودة. هنا في هذا المكان رأيتُ كيف يأخذ الدين مساراً جديداً بإتجاه ما تحتاجه الناس وتتطلبه الحياة.
تضم هذه الكاتدرائية أحد عشر جرساً ضخماً، تُقرع في أوقات متباينة ولأغراض مختلفة حسب المناسبة والحدث، ويحضر الكثيرون من مناطق مختلفة فقط لسماع صوت الأجراس في أعياد الميلاد، حيث يتداخل الرنين بتوقيتات متفاوتة. وهناك برج حلزوني يصعد نحو الأبراج، ويحتوي على مئتين وواحد وتسعين درجة وصولاً الى قمة احد الأبراج، ثم تأتي خمس وتسعون درجة أخرى لينتهي هذا السلم، حيث يأتي دور سلم معدني يأخذك بعيداً مرة أخرى الى مشارف الفضاء وكأنك تعيش حالة (نيرفانا). ونظراً لهذا الارتفاع المهول، فنادراً ما يتكمن الناس من الصعود الى الأعلى ويكتفون بجزء من السلم الحلزوني كما فعلت.
بدوتُ كمن لا يريد الخروج من هذا المكان الذي تجاوزَ الكثير من الأزمنة والمنعطفات التاريخية وبقيَ واقفاً يستقبل الناس من كل مكان في العالم، ليقول كلمة واحدة فقط، هي أن محبة الآخر هي الدين الحقيقي الذي علينا الإيمان به، كذلك ان الجمال هو الذي يبقى، والإنسان هو المهم، وخاصة حين يكون قلبه مضيئاً بالمحبة، وروحه مليئة بالخير والإنجازات. ربما يفكر الكثيرون بمعجزة الانتماء لهذا المكان المقدس دينياً، لكن المقدس بالنسبة لي هنا هو الجمال الذي ينبعث مثل أغنية أبدية تعبر الحدود وتتجاوز اللغات.
أكملت جولتي في كاتدرائية كولن، فسحبتُ خطواتي بهدوء نحو الخارج حيث الغيوم مازالت تتجمع في السماء وتُكمل أسطورية المشهد، وحين صرتُ بين الناس شعرتُ بأني قد تركتُ خلفي عالماً امتزجت فيه الرفعة مع البوهيمية، الروح مع الفن، والجمال مع الطمأنينة، فأكملتُ طريقي بإتجاه وسط المدينة التي بدت كأنها تفتح لي ذراعيها من جديد لتقودني الى مفاجئة جديدة.










