TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > العقيدة الوطنية بين جوهرها الأصيل والشعور بالإنتماء

العقيدة الوطنية بين جوهرها الأصيل والشعور بالإنتماء

نشر في: 25 نوفمبر, 2025: 12:01 ص

عصام الياسري

في زمن تتنازع فيه الحقائق وتتبدل فيه المواقف وتتراكم الأزمات والصراعات لاجل المغائم ويكثر الحديث عن المحكومية ومصالح الطائفة وشأن العشيرة وتقديس الحزب وتفضيله على الوطن في بلد كالعراق، أصبح الحديث عن العقيدة الوطنية والأخلاقية ضرورة فكرية قبل أن تكون ترفًا ثقافيًا. ذلك أن الوطنية، في جوهرها الأصيل، ليست مجرد انتماء جغرافي أو شعور عاطفي يربط الإنسان بأرضه، بل هي رؤية فلسفية وأخلاقية تتجلى في موقف الإنسان من الحقيقة، وفي كيفية تعامله مع قضايا وطنه ومجتمعه.
الوطن كفكرة أخلاقية لا كجغرافيا فقط ، ليس مساحة من الأرض تُرسم على الخرائط، بل منظومة من القيم التي تمنح الإنسان معنى وكرامة. فالمواطنة الحقة لا تُقاس بما يُقال في المناسبات، بل بما يُمارس من سلوك يومي يعكس صدق الانتماء. والعقيدة الوطنية، في عمقها، ليست خضوعًا للسلطة أو تأييدًا أعمى للنظام، بل هي التزام بالضمير الجمعي، وسعي دائم لتحقيق العدالة والمساواة والكرامة لجميع أبناء الوطن.
وإن الوطنية بلا بعد أخلاقي تتحول إلى شعار أجوف، والأخلاق بلا انتماء وطني تتحول إلى مثالية عاجزة عن الفعل. فالعلاقة بين الوطنية والأخلاق هي علاقة تفاعل وجدلي لا تنفصم؛ إذ لا وطنية حقة دون قيم، ولا أخلاق فاعلة دون مسؤولية تجاه الوطن.
بين الولاء والنقد، من أكبر التحديات التي تواجه اليوم المجتمعات العراقية هي العلاقة الملتبسة بين الحقيقة والولاء الوطني. فكثيرون يظنون أن قول الحقيقة خيانة، وأن النقد طعن في الانتماء. غير أن الفكر الفلسفي العميق يعلمنا أن الحقيقة ليست خصمًا للوطن، بل هي شرط وجوده. فالوطن الذي يخاف من الحقيقة يفقد قوته الأخلاقية، والمجتمع الذي يُقصي النقد ويكفر الحقيقة يحكم على نفسه بالجمود وتكرار الأزمات واستمرار المخاتلات السياسية.
إن الدفاع عن الوطن لا يعني تبرير أخطائه، كما أن حب الوطن لا يعني الصمت أمام فساده. فالحب الحقيقي للوطن يُقاس بقدرتنا على مواجهته بالحقيقة، لا بقدرتنا على تجميل واقعه. إن قول الحقيقة، مهما كان مؤلمًا، هو أسمى أشكال الولاء للوطن، لأنه يضع المصلحة العامة فوق المصلحة الخاصة، ويجعل من الوعي النقدي سلاحا للبناء لا للهدم.
إن بناء وطن قوي لا يتحقق بالهتاف ولا بالشعارات، بل ببناء ضمير وطني أخلاقي ووعي وطني جديد قادر على إدراك أن الحقيقة ليست عدوة الاستقرار، بل أساسه. فالمجتمع الذي يجرؤ على مواجهة نفسه بصدق هو المجتمع الذي يمتلك مقومات النهضة. أما الذي يختبئ وراء الأقنعة والشعارات وتزييف الحقائق والتاريخ، فإنه يعيش وهم الوطنية دون أن يحقق جوهرها.
لذلك، فإن العقيدة الوطنية والأخلاقية الحقة هي التي ترى في الحقيقة قيمة عليا، وفي الاختلاف مصدر قوة، وفي النقد مسؤولية لا تهمة. إنها العقيدة التي تجعل من المواطن شريكا لا تابعا، ومن الوطن مشروعا مفتوحا نحو الكمال لا مجرد معطى جامد. إن بناء وطنٍ عادلٍ لا يكون بترديد الشعارات، بل بتربية ضميرٍ جمعيٍّ قادر على التمييز بين الولاء الأعمى والإخلاص المستنير. فالوطن، في النهاية، ليس أرضا فقط، بل هو منظومة من القيم والحقائق التي نحيا بها ولها. ومن دون الحقيقة، تتحول الوطنية إلى قناعٍ يخفي الأنانية والمصالح الفردية والحزبية والطائفية، ومن دون الأخلاق تصبح الحقيقة سلاحا للتدمير لا وسيلة للبناء.

خاتمة
في النهاية، يمكن القول إن العقيدة الوطنية والأخلاقية ليست مجرد فكرة نظرية، بل هي فلسفة عيش تقوم على الصدق مع الذات والوطن. فالحقيقة، وإن كانت مرّة، هي الطريق الوحيد إلى إصلاح العراق وقيمه الوطنية، ومهما تعثر، لا يُبنى إلا على أساس أخلاقي راسخ. وما بين الحقيقة والأخلاق، يولد الوطن الذي نحلم: وطن حرّ، عادل، ومستنير يحتوي الجميع.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

 علي حسين منذ أيام والجميع في بلاد الرافدين يدلي بدلوه في شؤون الاقتصاد واكتشفنا أن هذه البلاد تضم أكثر من " فيلسوف " بوزن المرحوم آدم سميث، الذي لخص لنا الاقتصاد بأنه عيش...
علي حسين

كلاكيت: مهرجان دهوك.. 12 عاماً من النجاح

 علاء المفرجي يعد مهرجان دهوك السينمائي مجرد تظاهرة فنية عابرة، بل تحوّل عبر دوراته المتعاقبة إلى أحد أهم المنصات الثقافية في العراق والمنطقة، مؤكّدًا أن السينما قادرة على أن تكون لغة حوار، وذاكرة...
علاء المفرجي

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

لطفيّة الدليمي هناك لحظاتٌ تختزل العمر كلّه في مشهد واحد، لحظاتٌ ترتفع فيها الروح حتّى ليكاد المرء يشعر معها أنّه يتجاوز حدود كينونته الفيزيائية، وأنّ الكلمات التي كتبها خلال عمر كامل (أتحدّثُ عن الكاتب...
لطفية الدليمي

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

رشيد الخيّون حصلت أكبر هجرة وتهجير لمسيحيي العراق بعد 2003، صحيح أنَّ طبقات الشعب العراقي، بقومياته ومذاهبه كافة، قد وقع عليهم ما وقع على المسيحيين، لكن الأثر يُلاحظ في القليل العدد. يمتد تاريخ المسيحيين...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram