TOP

جريدة المدى > خاص بالمدى > العراق على حافة أزمة مالية مركّبة: موازنة غائبة ودَين داخلي متصاعد وحسابات ختامية معلّقة

العراق على حافة أزمة مالية مركّبة: موازنة غائبة ودَين داخلي متصاعد وحسابات ختامية معلّقة

نشر في: 27 نوفمبر, 2025: 12:08 ص

المدى/ يمان الحسناوي
يدخل العراق مرحلة اقتصادية شديدة الحساسية، تتقاطع فيها أزمات الموازنة والدَّين العام والحسابات الختامية وسعر الصرف، لتشكّل مشهداً متشابكاً تتزايد تعقيداته مع مرور الوقت. وبعد سنوات طويلة من التحذيرات الاقتصادية والرقابية غير المستجابة، يبدو أن البلاد تتجه نحو اختبارات مالية مؤلمة، يتصدرها ملف موازنة 2026 التي تُثار حولها مخاوف كبيرة بشأن قدرتها على تغطية النفقات أو توفير الحد الأدنى من الاستقرار المالي.
وتشير تقديرات الخبراء إلى أن الموازنة المقبلة مرشّحة لعجز كبير حتى في حال استقرار أسعار النفط، فيما يزداد الجدل حول إمكانية اللجوء إلى تغيير سعر الصرف كخيار اضطراري لمعالجة الفجوة بين الإيرادات والنفقات، وهو خيار يحمل تداعيات خطِرة على الأسعار والسيولة ومستوى المعيشة، ليجعل من موازنة 2026 واحدة من أكثر الموازنات تعقيداً في تاريخ العراق.
وفي خضم هذه التحديات، تبرز أزمة الحسابات الختامية كأحد أكثر مظاهر الخلل المالي وضوحاً. فالمحكمة الاتحادية العليا شددت على ضرورة تقديمها سنوياً، إلا أن غيابها المستمر دفع الإنفاق الحكومي نحو مناطق غير خاضعة للرقابة الدقيقة، ما أدى إلى تراكم التزامات غير محسومة أثرت بشكل مباشر على إعداد الموازنات اللاحقة.
وتزامناً مع ذلك، تُظهر بيانات البنك المركزي ارتفاعاً حاداً في الدَّين الداخلي الذي بلغ 87.7 تريليون دينار حتى منتصف 2025، بزيادة تتجاوز 5% مقارنة بالعام الماضي، في وقت يعتمد فيه العراق اعتماداً شبه كامل على الاقتراض الداخلي لتغطية العجز. ورغم تطمينات المستشار المالي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، بشأن محدودية الدَّين الخارجي وإدارة الدَّين الداخلي عبر الجهاز المصرفي الحكومي، إلا أن خبراء الاقتصاد يحذرون من تأثير تضخم الدَّين على السيولة واستقرار الأسعار ونشاط القطاع الخاص.
وفي هذا السياق، يرى الباحث بالشأن الاقتصادي علي دعدوش أن موازنة 2026 ستُبنى على سعر نفط تحفّظي بين 55 و60 دولاراً للبرميل، وبمعدل تصدير 3.5 ملايين برميل يومياً، ما قد يحقق أكثر من 99 تريليون دينار عند سعر صرف 1300. ويؤكد دعدوش خلال حديثه أن النفقات المتوقعة، والتي تتراوح بين 150 و160 تريليون دينار، ستؤدي إلى عجز قد يصل إلى 50 تريليون دينار، ينخفض إلى 35 تريليون في حال اعتماد سعر صرف 1500 دينار للدولار. ويرى أن معالجة هذا العجز تتطلب خطوات صعبة تشمل تحويل 20 تريليون دينار إلى مشاريع استثمارية، واللجوء إلى الاقتراض الخارجي لتمويل الموازنة الاستثمارية، إضافة إلى ترشيد الرواتب عبر آلية الحذف والاستحداث.
وفي موازاة ذلك، تبرز أزمة تشريعية وإجرائية معقدة. فقد أصدرت المحكمة الاتحادية قراراً بإنهاء أعمال مجلس النواب وتحويل الحكومة إلى حكومة تصريف أعمال، مؤكدة أن انتهاء الدورة الانتخابية يعني توقف البرلمان عن ممارسة دوره التشريعي والرقابي، وتحول صلاحيات الحكومة إلى صلاحيات محدودة. وجاء القرار بالتزامن مع إجراء انتخابات مجلس النواب للدورة السادسة، التي جرت في 9 و11 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري.
وتعقّد الموقف أكثر مع إعلان استجواب رئيس الوزراء محمد شياع السوداني بشأن تأخر إرسال جداول الموازنة إلى البرلمان، بينما كانت وزيرة المالية طيف سامي قد بررت تأخر إرسال الجداول بتقلّبات أسعار النفط وعدم حسم الخلافات مع إقليم كردستان، مؤكدة أن هذه العوامل تعرقل تمويل الموازنة الاتحادية.
وفي سياق متصل، يشير النائب السابق مضر الكروي إلى أن جداول موازنة 2025 باتت خارج قدرة الحكومة الحالية على الحسم بعد قرار المحكمة الاتحادية، موضحاً أن تأخر إرسالها من مطلع العام حتى نهايته، وتحول الحكومة إلى تصريف أعمال، جعل من غير الممكن قانونياً المضي في استكمالها. ويؤكد أن الحسم سينتقل إلى الحكومة المقبلة، مشيراً إلى أن هذا التأخير ألحق أضراراً مباشرة بالوزارات والهيئات الحكومية والمشاريع الاستثمارية، وخلق صعوبات مالية عطلت العديد من الخطط. ويعزز هذا الواقع صورة الاضطراب المالي المتزامن مع تضخم الدَّين الداخلي وتعطل الحسابات الختامية والضبابية التي تحيط بموازنة 2026.
من جهته، يشدد الباحث بالشأن المالي والمصرفي أحمد هذال على أن المشكلة أعمق من مجرد خلل في الأرقام، مبيناً أن نسبة الدَّين إلى الناتج المحلي تصل إلى 37% وترتفع إلى 93% عند استبعاد النفط، وهو ما يعكس هشاشة الهيكل الاقتصادي. ويشير هذال إلى امتلاك الدولة أصولاً خاملة بقيمة 450 تريليون دينار لم تُستخدم بسبب الارتباك السياسي، مؤكداً أن مراجعة امتيازات ورواتب الدرجات الخاصة — التي تصل إلى 20 تريليون دينار — إلى جانب استعادة 50% من الإيرادات غير النفطية المهدورة، يمكن أن يخفف الأزمة بشكل كبير.
أما الخبير بالشأن الاقتصادي نبيل المرسومي فيقدم رؤية أكثر قتامة، مؤكداً أن الدَّين الداخلي بلغ 91 تريليون دينار، وهو أعلى مستوى في تاريخ العراق، وأن قدرة الحكومة على الاقتراض الداخلي باتت شبه معدومة، ما يدفع نحو خيار مؤلم يتمثل في خفض جديد لسعر الدينار قد يتراوح بين 180 و200 ألف دينار لكل 100 دولار. ويحذر المرسومي من موجة تضخم كبيرة قد تضرب السوق، مشيراً إلى أن الرهان على ارتفاع أسعار النفط غير واقعي، وأن انتهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا قد يخفض الأسعار إلى مستويات أدنى بكثير. كما يشكك في إعلان الحكومة تحقيق الاكتفاء الذاتي من الوقود، لغياب البيانات الرسمية المؤيدة، مستشهداً بتجربة العام الماضي حين اضطرت الحكومة للاستيراد رغم إعلانها الاكتفاء.
وبين الحسابات الختامية المفقودة، والموازنات المتأخرة، وتضخم الدَّين الداخلي، وتقلبات أسعار النفط، وغموض مستقبل سعر الصرف، يبدو العراق أمام أزمة مالية وإدارية متشابكة تهدد استقرار السنوات المقبلة. ويتفق الخبراء على أن تخطي هذه الأزمة يتطلب إصلاحاً جذرياً في إدارة الإنفاق، وتفعيل الرقابة المالية، وتوسيع الإيرادات غير النفطية، ووضع سقف واضح للدَّين العام، قبل الشروع في صياغة موازنة جديدة لا تزال بيئتها الاقتصادية غير مستقرة.
وفي وقت سابق من يوم الاثنين، أكد البنك المركزي العراقي دعم استقرار سعر الصرف معززاً بمستويات الاحتياطيات الأجنبية المثالية من العملات والذهب، فيما أشار إلى عدم وجود أي نية لتعديل سعر صرف الدينار العراقي.
وذكر البنك، في بيان تلقته (المدى)، أنه "مع اقتراب نهاية العام 2025، أعلن البنك المركزي العراقي تحقيق تقدم ملموس في أهدافه الاستراتيجية المتعلقة بالحفاظ على استقرار المستوى العام للأسعار، إذ سجل معدل التضخم انخفاضاً إلى مستويات تاريخية تُعد الأدنى على مستوى المنطقة، مدعوماً بسياساته النقدية وإجراءاته المدروسة رغم التحديات الاقتصادية الراهنة".
وأوضح البيان، أن "قانون البنك المرقم (56) لسنة 2004، ولا سيما المادة 1/ 4/ أ، يحدد بوضوح مهامه الأساسية في صياغة وتنفيذ السياسة النقدية، بما في ذلك سياسة سعر الصرف"، مؤكداً "عدم وجود أي نية لتعديل سعر صرف الدينار العراقي، انسجاماً مع هدفه المحوري في ضمان استقرار الأسعار، وهو الهدف الذي جرى تحقيقه بنجاح خلال الفترة الماضية".
وشدد البيان على أن "البنك المركزي يواصل دعم استقرار سعر الصرف معززاً بمستويات الاحتياطيات الأجنبية المثالية من العملات والذهب"، مؤكداً "استمراره في تغطية جميع طلبات المصارف للتعزيز الخارجي بالدولار الأميركي وبعملات أجنبية أخرى مثل اليوان الصيني، الليرة التركية، الروبية الهندية، الدرهم الإماراتي، فضلاً عن استمرار تسويات البطاقات المصرفية والتحويلات الشخصية عبر شركتَي مونيغرام وويسترن يونين، إضافة إلى مبيعات العملة النقدية".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

مقالات ذات صلة

الجلسة الأولى للبرلمان: الرئاسة والنائب الأول في قلب الخلاف

الجلسة الأولى للبرلمان: الرئاسة والنائب الأول في قلب الخلاف

بغداد/ تميم الحسن تتجه البلاد – على الأرجح – نحو جلسة برلمانية في نهاية الشهر الحالي من دون حسم أيٍّ من الرئاسات الثلاث، في مشهد يعيد إلى الأذهان انسداد عام 2022 حين دخلت العملية...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram