أكرم توفيق

إذ تشكل المجموعة القصصية «بُدْراب» للقاص والروائي أمجد توفيق خطوة جديدة في المسار الإبداعي لكاتب خبر السرد لقرابة نصف قرن وتنقّل بين القصة والرواية والنقد بثبات واتزان. ومع صدور المجموعة التي ضمّت تسع عشرة قصة، تتأكد مرة أخرى قدرة الكاتب على الإمساك بلبّ التجربة الإنسانية في أكثر لحظاتها هشاشة وعمقا من دون أن يقع في المباشرة أو الإغراق العاطفي.

اختيار عنوان (بُدْراب) ليس اعتباطيًا إنه عنوان يشي بما يريده الكاتب من قارئه .. الدخول في عالم تتجاور فيه الرمزية مع الواقعية وتتقاطع فيه التجربة الداخلية مع اليومي والبسيط. العنوان نفسه يوحي بحالة ارتباك أو حدث عابر لكنه يحمل ما يكفي لإعادة تشكيل رؤية الشخصيات تجاه ذاتها وتجاه العالم. هذه الثنائية بين البساطة والشحنة الدلالية تشكل البنية العامة للمجموعة بأكملها.
يميل أمجد توفيق في (بُدْراب ) إلى توسيع المساحة الإنسانية داخل القصة القصيرة، فيجعل من الهواجس الداخلية والذاكرة والخوف والرغبة والندم محاور أساسية تدور حولها الأحداث. القصص لا تنشغل كثيرا بـالحادثة بقدر انشغالها بتأثيرها النفسي والوجداني.
هنا تكمن قوة الكاتب أن يجعل التفاصيل الصغيرة تهزّ الحياة كلها وأن يعوّض ضيق مساحة القصة بكثافة إحساس وصدق وصف وعمق نظرة.
لغة توفيق في هذه المجموعة تتسم بالاقتصاد المحسوب الذي يبتعد عن الترهل ، البلاغة الهادئة التي لا تتصنع ولا تزخرف الانسيابية التي تجذب القارئ إلى الداخل من الجملة الأولى، حس تأملي يمنح النصوص طابعًا شبه فلسفي دون أن تتحول إلى خطاب .. هذه اللغة بما فيها من رصانة ونقاء تسهم في توجيه القارئ نحو الداخل نحو أعماق الشخصيات بدل أن تدفعه للتوقف عند حدود الشكل أو الزخرفة.
تبدو قصص (بُدْراب) متنوعة في أنماطها لكنها تتشارك في ثلاثة عناصر بارزة:
1. لحظة الانكسار: معظم القصص تنطلق من نقطة انكسار صغيرة خيبة ،غياب ، صدمة، فقد، انقطاع لكن هذه النقطة تتحول إلى مرآة تكشف الشخصية من الداخل.
2. الإيقاع النفسي: يتقدم السرد في المجموعة بإيقاع داخلي أكثر من اعتماده على الحدث الخارجي. الإيقاع النفسي يمنح كل قصة نبرتها الخاصة، ويجعل المتلقي يتعايش مع القلق أو الخوف أو الرجاء كما تعيشه الشخصية نفسها.
3. خاتمة مفتوحة على تأويل: يلتزم توفيق بخواتيم لا تُغلق النص، بل تتركه معلقًا بإشارة، أو صورة، أو سؤال. هذا الأسلوب يمنح القصة القصيرة حياتها الحقيقية: أن تكون شرارةً لا تفسيرا.
4- فلسفة الأمل رغم الجراح: على الرغم من أن بعض القصص تغوص في عمق الألم الإنساني، فإن المجموعة تحمل نبرة إنسانية واضحة .. الألم ليس نهاية، والخسارة ليست قدرًا، والإنسان قادر على إعادة تشييد ذاته ولو من الرماد. هذه النزعة التي وُصفت بأنها تفاؤل إنساني نادر في القصة العربية الحديثة تجعل من قراءة (بُدْراب) تجربة توازن بين الوجع والضوء، بين الانكسار والقدرة على النهوض.
5- قيمة المجموعة في سياق الأدب العراقي: تأتي (بُدْراب) في زمن يكثر فيه السرد الذي يعتمد على الفجیعة الكبرى أو الحدث السياسي المباشر. لكن أمجد توفيق اختار طريقًا آخر.. العودة إلى الإنسان الفرد إلى قلبه وقلقه وظله الداخلي. هذا الاختيار يمنح المجموعة نكهة خاصة، ويجعلها مختلفة عن الموجة السائدة من السرد العراقي الذي يحمّل النص أعباء التاريخ والحرب فقط.
إن (بُدْراب) تعيد الاعتبار للقصة القصيرة بوصفها فنّا قادرا على احتواء النفس البشرية، لا مجرد وسيلة لقول فكرة اجتماعية أو سياسية. هي مجموعة ناضجة، مكتوبة برؤية تستند إلى خبرة طويلة ورغبة صادقة في الوصول إلى جوهر الإنسان.
ليست مجموعة تجريبية صاخبة، ولا تعتمد على الحيلة الفنية، لكنها في المقابل تمنح قارئها صدقا ودفئا وعمقا قلّما تجتمع في عمل قصصي واحد. إنها مجموعة لمن يبحث عن الأدب الذي لا يصرخ، بل يهمس… ثم يترك أثراً عميقاً لا يغيب