بغداد / سيزر جارو
تواجه الموصل، بعد سنوات من الدمار، ظاهرة يصفها مراقبون بـ«اقتصاد الأشباح»، حيث تُسجَّل شركات رسمياً رغم عدم امتلاكها مقرات أو موظفين أو نشاط فعلي، لكنها تحصل مع ذلك على عقود تُقدّر بملايين الدولارات. ويكشف هذا التقرير آليات عمل هذه الشركات في الخفاء، في وقت تستمر فيه معاناة المدينة من تراجع الخدمات والبنى التحتية.
المهندس (س. ع)، موظف رقابي سابق فضّل عدم ذكر اسمه الكامل، أكد لـ«المدى» أن إحدى الشركات التي فازت بعقد خدمي لم يكن لها عنوان فعلي سوى باب صدئ وساحة مهجورة، على الرغم من تنفيذها ثلاثة عقود منذ عام 2022. وأضاف أن عشرات الشركات الأخرى تعمل من غرف صغيرة أو مخازن فارغة أو عبر وسطاء محليين، لكنها تواصل الفوز بالعقود. مصادر مسؤولة في ديوان محافظة نينوى ذكرت لـ«المدى» أن غالبية هذه الشركات تُستخدم كواجهات لعقود تُحوَّل لاحقاً إلى مقاولين فرعيين مقابل عمولات كبيرة. وقال أحد المسؤولين في تصريح خاص: «هناك شبكات متكاملة، أسماء وهمية، عقود حقيقية، وأموال تتنقل عبر حسابات يصعب تتبعها. هذا يستنزف موارد الإعمار ويخفض جودة المشاريع». كما أوضح المحقق الإداري (م. ر)، الذي فضّل عدم ذكر اسمه، لـ«المدى» أن بعض الشركات لديها قوائم موظفين على الورق، لكن غالبية هؤلاء لا يعملون فعلياً، فيما تُصرف رواتبهم عبر حسابات جماعية يديرها شخص واحد، ما يشير إلى أسلوب ممنهج لتصريف الأموال تحت غطاء العمل الرسمي. وأكد أن «إحدى الشركات التي فازت بعقد خدمي لم يكن لها عنوان فعلي سوى باب صدئ وساحة مهجورة، رغم أنها نفذت ثلاثة عقود منذ عام 2022»، لافتاً إلى أن عشرات الشركات الأخرى وضعها مشابه، إذ تُسجَّل رسمياً في دائرة الاستثمار، لكنها تعمل من غرف صغيرة أو مخازن فارغة أو عبر وسطاء محليين، وتستمر في الحصول على العقود.
الناشط زيد خليل أشار، في حديث خص به «المدى»، إلى أن نمط المشاريع الوهمية متكرر، حيث تبدأ المشاريع المعلنة وتُرفع اللافتة لبضعة أيام، ثم تختفي المعدات، فيما يُرفع تقرير ورقي يفيد بإنجاز المشروع بنسبة تصل إلى 90%.
أبو رائد، أحد سكان حي الموصل الجديدة، أكد لـ«المدى» أن مشروع تبليط خُصص للحي قبل عامين لم يُنفذ على الأرض رغم العقود الرسمية. وقال: «نحن نعيش وسط الحفر والمياه الآسنة، وكل عام يُقال لنا إن المشروع مكتمل، لكننا لم نرَ متراً واحداً من التبليط».
الخبير الاقتصادي د. براء الفهداوي أوضح لـ«المدى» أن الموصل، بسبب حجم الدمار وتعدد مصادر النفوذ بعد 2017، أصبحت بيئة خصبة لانتشار شركات وهمية. وأضاف: «ضعف الرقابة وغياب الشفافية سمحا لهذه الظاهرة بالتمدد، مما يؤخر التعافي الاقتصادي ويقلل فرص الاستثمار الحقيقي».
وفي السياق ذاته، أكد الدكتور هاني العزاوي، أستاذ إدارة المشاريع في جامعة الموصل، لـ«المدى» أن تعدد الجهات الممولة وغياب خطة مركزية موحدة أسهما في ظهور «شركات الظل». وأضاف: «عندما يتقاطع تمويل حكومي محلي مع مشاريع تمويل دولي، يصبح التحقق من كل شركة أو عقد شبه مستحيل، ما يسمح بانفلات الأموال نحو جهات وهمية».
منذ تحرير الموصل وحتى عام 2023، صرفت نينوى نحو 6 ترليونات و128 مليار دينار عراقي على مشاريع الإعمار، أي ما يعادل نحو 4.5 مليارات دولار. وبلغ عدد المشاريع المتلكئة 148 مشروعاً بكلفة تُقدّر بنصف ترليون دينار. وفي عام 2024، كشفت لجنة رقابية عن 36 ملف مشروع يُشتبه بوجود مخالفات أو ملاحظات بشأنها. كما جرى تسجيل وفرة مالية تُقدّر بـ26 مليار دينار في المشاريع الممولة من الأرصدة المجمدة ودعم الاستقرار وتنمية الأقاليم، فيما خصص الصندوق الوطني لإعادة الإعمار 100 مليار دينار سنوياً للبنية التحتية في نينوى. وتعكس هذه الأرقام، مقارنة بما يظهر على الأرض، أن جزءاً كبيراً من الأموال المخصصة لإعمار الموصل يُصرف على شركات وهمية أو مشاريع غير منفذة، ما يشير إلى وجود اقتصاد موازٍ يعمل خلف الستار. وتبدو وفرة الأموال وضعف الرقابة الموحدة بيئة ملائمة لاستمرار ظاهرة الشركات الشبحية، فيما يظل المواطن المتضرر يواجه نقص الخدمات الأساسية والبنى التحتية.










