جورج منصور
مرة أخرى، يجد إقليم كردستان نفسه تحت وطأة هجوم لا يستهدف منشأة عابرة، بل يضرب شريان حياته النابض: البنى التحتية للطاقة. ففي 27 نوفمبر تعرض حقل "كورمور" للغاز في قضاء جمجمال بمحافظة السليمانية في إقليم كردستان العراق، لهجوم بصواريخ أو طائرات مسيرة، ما ألحق أضراراً بخزان لتخزين السوائل وأدى إلى إغلاق الإنتاج مؤقتاً.
لم يكن هذا الاعتداء حادثاً تقنياً، بل هو فعلاً تخريبياً ممنهجاً ورسالة سياسية واضحة تستهدف استقرار الإقليم ونجاحه. فحقل كورمور ليس منشأة عادية؛ إذ يغذي نحو 80% من احتياجات الإقليم من الكهرباء، ما يجعله عموداً فقرياً للخدمات والحياة اليومية. ووقف تشغيله يعني، بشكل مباشر، انقطاعات واسعة في الطاقة واهتزازاً في اللفائض المالي الذي يعتمد عليه الإقليم.
لكن التداعيات تتجاوز الجانب الاقتصادي لتطال الحياة أساسيات نفسها.فقرار إغلاق الحقل هو قرار بإغراق مدن كاملة في الظلام والبرد، وحرمان المستشفيات من الطاقة اللازمة لإنقاذ المرضى، وتعطيل التعليم، ودفع الأسر، ولا سيما كبار السن والأطفال، إلى مواجهة قسوة الشتاء بلا مقومات صمود. إنه، بلا مواربة، عقاب جماعي يُوجَّه إلى المواطن في صميم حياته وهشاشتها.
هذا الاستهداف لا يأتي من فراغ. فإقليم كردستان، رغم كل التحديات الداخلية، استطاع خلال السنوات الماضية بناء نموذج نادر للاستقرار الخدمي، وظهر ذلك بوضوح في قطاع الكهرباء، الذي بلغ مستويات توزيع قاربت 24 ساعة يومياً. غير أن هذا النجاح، بدلاً من أن يكون مصدر إلهام، تحوّل لدى بعض الأطراف، داخل العراق وخارجه، إلى مصدر إزعاج. فهو نجاح "يفضح" الفشل، ويمثل برهاناً على إمكانية تشييد منظومة خدمات مستقرة في بيئة مضطربة، ما يجعله هدفاً ينبغي تحطيم رمزيته قبل منشآته.
إن هذا "الحقد" المتراكم هو نتاج تراكمات تاريخية وذهنيات مركزية ترى في الإقليم "استثناءً" يجب كبحه. فبعض القوى تعتبر صموده نموذجاً مزعجاً يتحدى منطق الضعف والتبعية. ورغم تعدد الجهات المحتملة، من فصائل مسلحة إلى قوى سياسية وأطراف إقليمية تسعى لحماية نفوذها في ملف الطاقة، فإنها تلتقي عند هدف واحد: إعادة الإقليم إلى مربع الضعف، حتى لو كان الثمن حياة المدنيين وأمنهم.
ومع ذلك، يعلمنا التاريخ أن المجتمعات التي تتعرض لتخريب ممنهج في بنيتها التحتية، عالباًما تستمد من المحن مناعةً وصلابة. وإقليم كردستان، الذي خرج من عقود من الحروب والحصار والتطهير العرقي، لن يوقف مسيره هجوم على حقل غاز. فالسؤال الجوهري اليوم لا يتعلق بإصلاح الأنابيب فحسب، بل بإصلاح الوعي لدى من يظنون أن إغراق المدن في الظلام يمكن أن يطفئ إرادة شعب.
الخلفية والدوافع: شبكة معقدة من المصالح
الهجمات المتكررة تشير إلى وجود شبكة مصالح أمنية وسياسية واقتصادية معقدة، وليس مجرد فاعل منفرد. ويمكن تفسير دوافعها عبر:
1- الخوف من النموذج الفيدرالي: إذ قد ترى بعض الأطراف في نجاح الإقليم سابقة خطيرة تُلهم جماعات قومية أو مناطق أخرى، ما يهدد السردية المركزية للدولة.
2- الصراع على النفوذ والموارد: فالطاقة في العراق (نفطاً وغازاً) هي مصدر رئيسي للقوة السياسية والمالية، والسيطرة عليها تمنح قدرة على المناورة داخلياً وإقليمياً.
الآثار والتداعيات المتوقعة
على المديين القصير والمتوسط:
-انقطاع الكهرباء وخسائر تشغيلية فادحة.
- ارتفاع تكاليف الطاقة وتفاقم المعاناة الإنسانية.
- تراجع ثقة المستثمرين الأجانب والمحليين.
- زيادة التوتر السياسي بين أربيل وبغداد.
- إجبار الإقليم على تحمّل تكاليف أمنية باهضة لحماية منشآته.
على المدى البعيد:
- تباطؤ وتيرة تطوير مشاريع الغاز والطاقة.
- اتساع نطاق التدخلات الإقليمية في الشأن العراقي.
- إعادة رسم خرائط التحالفات والعقود الاقتصادية.
خلاصة
إن استهداف البنى التحتية للطاقة هو محاولة يائسة لإطفاء نور إقليم كردستان. لكن الناس الذين عاشوا عقوداً في الظلام يعرفون قيمة النور أكثر من غيرهم. فذلك الضوء الذي يصل إلى بيوتهم ليس مجرد خدمة، بل هو رمز للكرامة وإرادة الحياة. سيُصلح الحقل، وستعود الكهرباء، لكن السؤال الأخلاقي والسياسي سيبقى معلقاً:
هل يدرك من يضربون أنهم لا يقصفون منشآت، بل يقصفون إنساناً قرر أن يعيش بسلام ويطالب بحقه في حياة كريمة؟.











جميع التعليقات 1
اوشانا نيسان
منذ 2 أيام
ماجرى في كورمور وما يجري في الاقليم بانتظام، هو إمتداد حقيقي لمتطلبات النظام السياسي الذي شكل اساسا بهدف الانتقام من النظام الملكي والجمهوري السنيين والذي إستمر 82 عام.بالاضافة الى نتاءج نظام المحاصصة منذعام 2003 ولحدالان.والسبب يكمن في تغييب صوت الشعب.