TOP

جريدة المدى > سينما > محمود هدايت: في السينما الشاعرية لا توجد صور قطّ.. بل أزمنة

محمود هدايت: في السينما الشاعرية لا توجد صور قطّ.. بل أزمنة

باراجانوف، انكشافٌ صوفيٌّ

نشر في: 4 ديسمبر, 2025: 12:36 ص

بشرى بن فاطمة*
شهيته المفتوحة على البحث وقع مجنون على الكتابة، لا يحب التفرّد بالتفاصيل رغم قدرته، بل يحب التحليق أبعد بها مع كل من يختارهم ليشاركوه تلك الوليمة، يرتّبها كعشاء أخير، ويمضي بها أبعد بين عمق وصمت بين لغة وحكمة تمضغ الجنون، لتكون مائدة صداقات فكرية وجمالية، وهكذا اختار الكاتب العراقي محمود هدايت أن يحمل براجانوف على محمل الكتابة، والبحث طيلة سنتين راقع العدم باليقين، وتراقص مع أقلام شغوفة بملاكه المنبوذ براجانوف من الفن والقداسة من الجنون إلى السجون ومنها إلى الخلود.
ما الذي دفعك إلى تأليف كتاب (براجانوف– سينما الملاك المنبوذ) وما أثره في تجربتك الفنية والكتابية؟
- كل كتاب جديد أصدره أو أُخطّط لإصداره ، ينطلق من شهية مفتوحة على تأصيل الخرق داخلاً وخارجاً؛ كون الكتابة بالنسبة لي في عمومها، هي استعادة لشبح هاملت، وفي تقديري، أن تحقق ذلك يتطلب توفر إمكانية تبني الخرق الفكري والعمل على استدامته بمجهود مكثف يشحن العمل الإبداعي سواء كان مكتوباً أو بصرياً بطاقة التمدد السري تحت جلد الصمت دونما تنبيه أو إشارة مسبقة، أي أن يحضر سؤال الإبداع كما لو أنه عدوى لامرئية تفتك بشدة في القوالب المفروضة على الخيال والحواس من هذا وذاك، فتك انتهاكي كالذي اعتمده المولى طاووس (باراجانوف)منذ بداية مشواره وحتى آخر يوم من حياته، ومعلوم أنه لم يكن في رأسه سوى توسعة فتحة الخرق في قلب السينما، ليرصد من خلالها الحياة بعين تنبض بعربدات جمالية غير مسبوقة على الإطلاق؛ كونه ينتسب لشجرة الانقلابات الليلية – الحالة التي ينتقل فيها الخيال من الهدم إلى التدمير، الأمر الذي جعله منبوذا من حكومات النهار – أولئك الفنانين ضيقي الأفق، إذن، يمكن عدّ فكرة إنجاز كتاب عن المولى(باراجانوف) توأمة ليلية مع العزلة الأصيلة تلك - التي هرست روح موريس بلانشو فكراً وأدباً، بل أبعد من ذلك، يمكن استقبال فكرة إنجازي كتاباً عن باراجانوف ، على أنها إشهار صريح عن إعجابي الشديد بأحد مثيري الشغب الليلي في نهارات الفن.
هل غيّر الكتاب رؤيتك للسينما وفلسفتها، وكيف ترى الفن بعين باراجانوفية؟
- باراجانوف، انكشاف صوفي، صدعٌ شبقيٌّ في العين الإلهية: الصمت، قبل البشرية منها، الصورة لديه مقشرة بصرية، وأن تكويناته السينمائية تتشكّل غياباً كما العارف حين يتلاشى موتاً دائخاً في أبخرة أعشاب تعازيمه المخدرة، لهذا، هو لا يعيد صياغة الفهم السينمائي، بل يعمل جاهداً على تقشير العين كما لو كانت (بصلة غونترغراس) الجميلة. ففي مجمل مسيرته الفنية، كانت أفلامه من وجهة نظر السلطتين الثقافية والسياسية، ليست سوى صِرار تحت حصيرة العالم. علاوة على تركيزه الشديد وبدقة على ضرورة توصّل الكاميرا إلى (الصورة الأخطبوطية)، كأنما الفنون جميعها في حفل كانيبالي، كل فن يلتهم الآخر على إيقاع باراجانوفي غاية في البراعة التدميرية والتكوين الخلّاق، وإجمالا، فـ»الفنان هو، على نحو خاص، ذلك الكائن الموهوب الذي يعرف كيف يُسكت العقل ويُفسح المجال للحساسية والقلب» حسب المفكّر جاك آمون.
ما الذي تميّزت به سينما باراجانوف عن السينما الأخرى؟ وما سرّ انجذابك إليها؟
- إن ما حققّته هذه السينما من معجزات بصرية فاردة، يمنحني الجرأة العالية لأقول: أن باراجانوف ليس مخرجاً عادياً دخل إلى عالم السينما ليصنع أفلاماً فحسب، إنما هو يد الرب الموشومة بطائر السيمرغ ، أما (كاميرته الفرجيلية) - نسبة إلى فرجيل دانتي، فهي ذلك الظلام الفردوسي ـ الشاعري الذي تُسبّح بصمته الملكوتي تلك اليد الفسفورية، الفاتحة بتحركها مسارب سرية في جسد الكون - جديرة بأن توصلنا بـ(الصورة الكارثة) التي لا تولد إلا بوصفها حاجة للانكشاف، وتشبه إلى حد كبير أحلام فان غوغ المدورة خرقاً ليلاً في نهار الرؤية، الحالة التي يستحيل فيها الفن متراساً وجودياً، كتمترس كافكا بقشرة صرصاره الجميل أدباً خالداً، ومن حيث جماليات التشكيل اللوني، غالباً ما تجعلني سينما باراجانوف في حيرة من أمري، أكان فعلاً هذا المخرج الخلّاق يحمل كاميرا أم أنها فرشاة سيزان؟ على هذا النحو، فإن فيلم(لون الرمان) لا يمكن تخيله إلا بوصفه تحليقاً أورفيوسياً، لكنه تحليق دون أجنحة، مما يبدو أن باراجانوف كما هولدرين» ربما كان لديه عين واحدة أكثر من اللازم» وفي ظني أن التركيز على ذيل الجملة بمقدوره أن يضعنا على تماس مباشر مع المأزق الباراجانوفي، بالطبع، إنه فنان أكثر من اللازم.
في سياق تجربة باراجانوف، ما مدى ارتباط الإبداع بالمعاناة؟
- المعاناة بالنسبة للفنان الحقيقي، هي (إمضاء فارماكوني)، ونعلم ماذا تعني هذه الكلمة(الفارماكون) فإما موتاً سريعاً، أو حياة خالدة، مما يعني أن تخطي حدّ المنحة لا شك أنه سوف يؤدي إلى تجربة فنية تتسم بالثراء والرصانة، وهذا عينه ما يحدث لباراجانوف، حيث جعل من الزنازين الاشتراكية ورش فنية لصناعة لوحات الكولاج وحياكة أعمال حملت الكثير من الابتكار الجمالي، لكن، اللافت في ذلك كله، أنه بقي أمينا لخط سينمائي متعالٍ عن الحياة اليومية، إذ» لا يكون المرء ملتزما لمجرد صناعته أفلاما تتناول الطبقة العاملة، أو القضايا الاجتماعية؛ بل يصبح المرء ملتزما بقدر ما يتحلى بالمسؤولية عمّا يفعله» ويناغم هذا الموقف الغوداري صرامة باراجانوف تجاه حرصه الشديد على عدم اقحامه العام بالخاص، ذلك لأنه منشغل في البحث عن سينما متعالية ذات هالة فنية ذائبة في السري بشاعرية تتغذّى من رغبة العين في ختان شبحي؛ حيث الصورة كما الموت تظهر وتختفي سحريا.
في ظل التصادم المحتدم بين الفن والسياسة، برأيك، كيف يمكن للسينما أن تحافظ على أخلاقيتها الفنية وألا تقع في الفخ الأيديولوجي؟
- هل سمعت بالخرق الجسدي الذي تعرض له الفيلسوف الفرنسي جون لوك نانسي، بعد إجرائه لعملية زراعة قلب، وكيف كانت مشاعره تجاه هذا الدخيل الذي يستعمر جسده؟ في رأيي، أن كل عمل فني ينشد الخلود، ينبغي على صانعه أن يسعى إلى أن حيازة مرتبة الدخيل دوما، وأن يفوز بجوائز النبذ السياسي والثقافي، وأن يلزم نفسه بالتحرك وفقا لما يضمن له التمتع بالسعادة المنبوذة، وبطبيعة الحال، أن باراجانوف هو فرع أصيل في شجرة الدخلاء الخياليين من أمثال هولدرلين، وبيكاسو، هيدغر، وليفيناس، والمعري، ... إلخ، وأنه خير من مثَّلَ سلالة هاملت في مؤتمر الأشباح.
لماذا الإصرار من قبلك، كما يبدو في كتاباتك السينمائية، على أهمية ذوبان الفن في الميتافزيقيا، وهل بمقدور الصورة المتحركة تعويض غياب اللغة في بلوغ سرّ العدم والوجود؟
- في السينما الشاعرية أو المتعالية خاصة، لا توجد صور قطّ، بل أزمنة مسرنمة نحو مجهول لا مرئي، فكل شيء يظهر ليختفي وبالعكس، كأنما أرخبيلات ملحومة بخيالات شعرية (هنري ميشو الحصانية الشبحية)، كما لو أننا نشهد حفلاً جذمورياً، أو سيرك دلافين في بحيرة مرآوية، إذ لا وجود لشيء سوى التدافع نحو الصمت الأسطوري الناجم عن توهُّجات العين الداخلية. إنّ سينما الأشباح، هي تقشير شاعري لصورة الفكر الدُلوزية، إنها حفل تدميري لجذامير شبقة. وتبدى ذلك في سينما تاركوفسكي، فقد كشفت لنا عن جوهر الحداد الشعري للزمن. مما يعني أن مهمة المخرج السينما الرئيسة، هي برم نسيج الأزمنة.
ما السينما بالنسبة لمحمود هدايت؟
- السينما بالنسبة لي، كما اللغة لدى هيدغر، إنها وعاء الوجود، ومحاولة لاستعادة شعرية العالم والأشياء بتوفّر صورة وعائية، تتحرك كما لو أنها (مونادا) الروحنة الكبرى التي تحلم اللغة في الذوبان فيها، بمعنى أنها «آلة أرواحية لتشكيل الزمن» حسب جان إبستاين. فكل صورة تتحرك على الشاشة هي مهماز سوريالي- روحاني وشاعري وفلسفي في آن واحد.
حدثنا عن مشاريعك القادمة، و هل ثمة كتاب تحلم في تأليفه؟
- «ما أحلم بتأليفه هو كتاب عن اللاشيء» ..غوستاف فلوبير لكن، على صعيد الأعمال شبه المنجزة، لديّ كتاب عن المخرج الليتواني(شاروناس بارتاس – الختان السينمائي) قريبا سأدفعه إلى النشر، وكتاب آخر جماعي بعنوان (غرفة الرسم) بإشراف وعناية صديقي المُفكّر الجمالي، الفنّان التشكيلي كريم سعدون، وكتاب شبه منجز آخر بعنوان(جون لوك نانسي، خارج العالم –داخل الجسد) كما أننا نستعد في مجلة (أغورا آرت) لإصدار كتابين مهمّين ضمن منشورات المجلة، وهما:( عباس كياروستمي عكس التيار) و (العيادة والفلسفة) لمترجمهما الفذّ، الكاتب والمفكر إبراهيم محمود، وذلك دعماً وهدية لمشروع المجلة الفكري، وطبعا، نشكره على هذا التهادي الفلسفي الجميل. وسيصدر الكتابان بغلاف من اشتغال مصمّم المجلة ورئيس تحريرها، وبإخراج داخلي للدكتور الفنّان فلاح الخطّاط.
* كاتبة باحثة تونسية اختصاص فنون بصرية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

ذاكرة السينما: النار في الداخل

فيلم ارك.. الدخول غير الآمن لبوابة الزمن الافتراضي

الممثل باتريك تيمسيت: "ليس من السهل رفض دور سانتا كلوز"

مقالات ذات صلة

فيلم ارك.. الدخول غير الآمن لبوابة الزمن الافتراضي
سينما

فيلم ارك.. الدخول غير الآمن لبوابة الزمن الافتراضي

أحمد ثامر جهاد رغم أن فيلم (ARQ-2016) للمخرج "توني ايليوت" الذي يتواصل عرضه في صالات السينما العالمية، يُصنف كفيلم خيال علمي، إلا أنه قد خلا تقريبا من كل ما اعتدنا مشاهدته في هذا النوع...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram