ستار كاووش
مرت ثلاثة أيام وأنا أمرّ كل صباح بجانب متحف الفنانة الألمانية كاتي كولفيتز، مع ذلك كنتُ أُؤجِّل زيارتي لهذا المتحف لأني أردتُ أن أُهيء نفسي جيداً لهذا النوع من الأعمال التي تخفي وراءها الكثير من العمق والحكمة والقوة والعاطفة، أعمال تقول الكثير وتُفصح عن شخصية هذه الفنانة العظيمة التي أسَّسَتْ لها المدينة متحفاً خاصاً يضم الكثير من أعمالها. وبما أن المتحف يطل على ساحة السوق الجديد بمدينة كولن، فلم أحتج للوصول الى هناك سوى ثلاث دقائق مشياً من البيت الذي استأجرته لقضاء إجازتي في هذه المدينة التي تقع غرب ألمانيا. وهكذا ما أن خرجت من البيت حتى بانَ نصف وجه الفنانة الذي طُبع على الأعلام التي ترفرف معلنة عن بناية المتحف. خطوات قليلة حتى صرت بجانب مكتب قطع التذاكر، حيث نظرتْ المرأة الجميلة اليَّ وأنا أتهيأ لفتح محفظة النقود وقالت (اليوم الدخول مجاني بمناسبة التعديلات الجديدة التي أضيفت للمتحف) ثم مدت لي بطاقة الدخول مع ابتسامة ترحيب. يالها من بداية رائعة ليوم جديد.
ما أن دخلتُ المتحف، حتى نسيتُ العالم الخارجي تماماً، حيث تحول كل شيء الى اللونين الأبيض والأسود وما بينهما من تدرجات وتناغمات مذهلة. عالم فسيح من الرماديات يتمدد عبر قاعات العرض المتعددة، هنا يتوقف الزمن أمام أعمال تُعتبر فى طليعة ما تفتخر به الثقافة والفن الألماني. ورغم أن كل أعمال هذه الفنانة قد نفذتها بالأبيض والأسود، إضافة الى التراجيديا التي تغلف هذه الأعمال عموماً، لكن هناك ثمة ضوء لا ينطفيء، أنه ضوء الفن الذي يُعلن البهجة حتى وأن كانت الأعمال فيها الكثير من التراجيديا والألم والألوان المحدودة. فالفرح هنا هو فرح المعالجات والقوة الفنية والإمكانات المذهلة التي تمتلكها هذه الفنانة التي تشبه معجزة أثبتت نبوءتها عبر مواد الرسم. لا مجال لإضاعة الفرصة هنا وعليك الإنتباه لكل تفصيل من الأعمال الفنية، حيث تسرقك العيون الحادة للشخصيات وملامحها التي تبتكر القوة حتى من خلال العجز. فحتى الشخصيات الواهنة نراها قوية وحكيمة ومؤثرة. والأمر كله يتعلق بكيفية الرسم وبجدوى الإمساك بهذه الموضوعات التي يبتعد عنها الكثير من الفنانين. هنا لا يمكن لأحد من المتلقين أو حتى النقاد والمؤرخين أن يُشكك بعبقرية وتأثير وقوة أعمال هذه الفنانة التي ما أن تقرب أصابعها من مواد الرسم حتى تنبثق الأشكال حرة وجميلة وحيّة.
تجولتُ بين أرجاء المتحف وأنا أرى وأتحسس ظلال الرسامة العظيمة التي رحلت بعيداً وظلت أعمالها تجذب الكثيرين من كل مكان، وهكذا اختبر الزمن أعمالها ومنحها تذكرة الدخول الى قلوب الناس الذي يعشقون الفن الحقيقي، ولا يتوانون من الوقوف والانصهار مع عالمها الواسع والغريب والأسطوريّ، عالم ليس فيه سوى حركات الأيدي واستدارات الوجوه وحكايات الناس البسطاء الذي عاشوا على هذه الأرض.
تأثرت كاتي بالنزعة الطبيعية في الأدب، كذلك اهتمت بالحركات الاجتماعية والنسائية. وهذا كله ترك اثراً كبيراً على أعمالها الفنية، حيث بدأت منذ سنة ١٨٨٩ بتقنيات الحفر والطباعة. وبتأثير من زوجها الطبيب الذي كان يعالج الناس ويساعدهم في أحياء الطبقات العاملة والفقيرة في برلين، وجدت كاتي ضالتها الفنية واستلهمت موضوعاتها من أولئك الفقراء والمعوزين ووثقت بأعمالها حياتهم ومعاناتهم وقضاياهم وأمراضهم.
بعد مقتل ابنها بيتر في الحرب العالمية الأولي وهو في سن السابعة عشرة، اتجهت كاتي كولفيز مباشرة الى النحت، حيث أنجزت عملها العظيم الذي كان عبارة عن نصب تذكاري لقبر بيتر في مقبرة فلادسلو. وتظهر في هذا العمل هي وزوجها يجثوان بحزن لا يمكن أيقافة أو التحكم به ولا تحمّله، حيث يشبك زوجها ذراعيه على جسده وهو ينظر إلى المقبرة التي تضم آلاف الجنود، فيما تخفض هي رأسها كمحاولة لتحمل الفجيعة. وبعد ذلك إزداد اهتمامها بما تركته الحرب من معاناة، ورسمت سلسلة من الملصقات التي صارت شهيرة جداً فيما بعد.
وقد قامت عائلتها في سنوات ماضية بإهداء مجموعة كبيرة من أعمالها الى هذا المتحف الذي يحكي عن مسيرة كولفيتز التي تُعد أكثر الفنانين الألمان ابداعاً وجمالاً وتأثيراً وحيوية، وخاصة في أعمال الحفر على الخشب والطباعة الحجريّة، حيث لا يمكن لأي محب لأعمال الحفر أن لا تجذبه أعمال هذه الفنانة التي تفاجئك خطوطها كأنها شلالات أو سياط، فيما تنظر نحوك الوجوه التي رسمتها وكأنها تريد الاقتراب منك والتعرف عليك. التعبير هو سيد الموقف هنا حيث تتحول الأحبار الى أداة مكتملة ومؤثرة، تسحبك نحوها ولا تُريد لك الفكاك من سطوتها وسحرها.
لقد منع النازيون عرض أعمالها في بداية ثلاثينيات القرن العشرين واعتبروها اعمالها منحطة، والآن لها ثلاث متاحف، أحدها في مدينة برلين والآخر في مدينة موريتسبورخ، ثم هذا المتحف الذي أقف وسطه بمدينة كولن، والذي يضم أكبر مجموعة فنية لها. هذا هو حال الفن العظيم والملهم والمؤثر، وهذا هو الجمال الحقيقي الذي ربما يتراكم عليه بعض غبار النسيان لكن سيأتي حتماً من يُزيل الغبار ويفرك الصدأ.









