د. سهام يوسف
بعد مصادقة المحكمة الأتحادية على نتائج الانتخابات الأخيرة، يقف العراق على أعتاب تشكيل حكومة جديدة. هذه الحكومة ستكون اختبارًا حقيقيًا لإصلاح الاقتصاد العراقي المتعثر، حيث تتوقف عليه قدرة البلاد على مواجهة العجز المالي المتصاعد، انخفاض أسعار النفط، النفقات الحاكمة الضخمة، وركود الاستثمار. كل اختيار وزاري اقتصادي سيحمل تبعات مباشرة على الموازنة والطبقات الفقيرة والمتوسطة، ما يجعل ضرورة اختيار كابينة اقتصادية متخصصة أمرًا حيويًا.
في العراق، الإصلاح لا يُفشل بالصدفة، بل يُخنق عن سبق إصرار. يُرفع كشعار انتخابي، ويُتلى كخطبة رسمية، ثم ما إن تُغلق الكاميرات حتى يبدأ تقاسم الغنائم. عندها يتحول الإصلاح من مشروع إنقاذ إلى حقيبة وزارية، ومن ضرورة وطنية إلى حصة حزبية.
أي عبث هذا؟ بلد يواجه اختلالًا هيكليًا عميقًا،اعتمادًا نفطيًا خانقًا، عجزًا ماليًا ، ضغطًا سكانيًا متصاعدًا، وبطالة تتغذى من اقتصاد ريعي ، ثم يضع مفاتيح قراره الاقتصادي في يد من لا يملك أدوات التحليل ولا خبرة الإدارة و بعقلية "نمشيها وربك يسهل". هكذا تُدار الموازنات، وتُكتب السياسات، وتُتخذ القرارات التي يدفع ثمنها الفقراء وحدهم.. ثم بعدها نندهش من فشل الإصلاح.
في مثل هكذا ظروف، تتجه الدول إلى تشديد معايير الاختيار وتحصين القرار الاقتصادي بالخبرة، لكن العراق يسير بالعكس ،الوزارات الاقتصادية تُدار بمنطق التوازنات السياسية لا بمنطق إدارة المخاطر.لا أحد يشكك في قيمة الشهادات العليا أو التخصصات العلمية، لكن إدارة اقتصاد بحجم العراق ليست وظيفة للمؤرخ أو السياسي أو المهندس الميكانيكي او المحاسب .فالاقتصاد نظام دقيق له لغته الخاصة، من حسابات النمو ومعادلات التضخم وديناميكية سوق العمل، إلى السياسات المالية والنقدية وإدارة الدين العام والتحوط من تقلب أسعار النفط وخلق توازن بين التنمية والرفاه الاجتماعي.
هل يعقل ان وزارة التخطيط يديرها دكتوراه في التاريخ الحديث، ووزارة النقل وزيرها متخصص في جيولوجيا النفط والقانون بلا خبرة في اقتصاد النقل، ووزارة الزراعة خليط بين ميكانيك وعلوم سياسية بعيد عن الاقتصاد الزراعي والأمن الغذائي ؟
الدول التي نجحت في إدارة اقتصادها، مثل سنغافورة وألمانيا واليابان، أثبتت أنه لا يمكن لأي شخص أن يتولى منصباً وزارياً إلا إذا استوفى شروط الكفاءة والخبرة الصارمة. وزراء المالية والاقتصاد والطاقة في هذه الدول يخضعون لتقييم دقيق من حيث التعليم، والخبرة العملية، والقدرة على إدارة الملفات الحيوية، أي محاولة لتعيين شخص على أساس الولاء الحزبي أو الروابط العائلية دون خبرة حقيقية غالباً ما تواجه رفضاً فورياً من المؤسسات التشريعية أو المجتمع، لأن الموازنة والسياسات المالية لا تحتمل التجربة والخطأ.
العراق، اليوم، بعيد تماماً عن هذا النموذج، حيث تُعطى الوزارات السيادية على أساس الانتماءات والحصص الحزبية، وليس على أساس القدرة على إدارة الاقتصاد. الدرس واضح: أي إصلاح حقيقي يتطلب وضع معيار صارم للكفاءة والخبرة قبل أي ولاء سياسي، وإلا ستستمر الدوامة الاقتصادية والاجتماعية التي يغرق فيها البلد منذ عقود.
الأخطر أن الطبقة الحاكمة لم تتعلم شيئًا، كررت الخطأ ذاته في اختيار الوزراء سابقا ، ثم أعادت إنتاجه في اختيار السفراء، حتى وصل الأمر إلى رفض بعضهم دوليًا. ومع ذلك لم تُراجع القاعدة، بل دافعت عنها، وكأن الفشل صار تقليدًا، لا إنذارًا.
الإصلاح الحقيقي يبدأ حين يُكسر هذا التقليد. حين يُقال بوضوح: الاقتصاد ليس ساحة محاصصة، ولا ملفًا ثانويًا، ولا حقل تجارب. إلى ذلك الحين، سنبقى نرفع شعارات الإصلاح… ثم نضعها في يد من لا يملك أدواته، ونتظاهر بالدهشة كلما انهارت.
يبقى السؤال الحقيقي ليس: هل ستتشكل حكومة جديدة؟ بل: هل ستولد معها قطيعة حقيقية مع عقل المحاصصة؟ هل سنرى يومًا حكومة تفهم أن الاقتصاد لا يُدار بـ«نمشيها… وربك يسهل»، بل بعلم، وخبرة، وشجاعة قرار؟
إلى أن يحدث ذلك، سيبقى العراق بلدًا غنيًا بالموارد، فقيرًا بالإدارة، محاطًا بالأزمات، ومحكوماً بأخطر أنواع الهشاشة: هشاشة القرار.









