TOP

جريدة المدى > عام > ثرثرات الاحتجاج .. خيانات عصريّة

ثرثرات الاحتجاج .. خيانات عصريّة

نشر في: 14 ديسمبر, 2025: 12:02 ص

ريسان الخزعلي
1
خيانات صاخبة ، كتاب الشاعر- الناقد / علي حسن الفوّاز / حمل تجنيس ( رواية ) . ومثل هذا العمل جديد على اهتماته ِ الإبداعية ، ولا ضير في ذلك عندما يكون الإبداع قادما ً من ضروراته ِ التاريخيّة / الفنيّة وحتميّات الموقف في مواجهة وكشف التعارضات الوجوديّة .
في أوّل مفتتحات الكتاب والذي جاء بعنوان ( عتبة لتأويل السرد الخائن ) يواجهنا التحليل النقدي لمفهوم السرد الخائن ، والسرد الخائن توصيف صادم نادر الاستخدام في قراءة وتحليل السرديات . وهكذا جاء الاستهلال ليُعلن َ التأويل الذي يبدو مُستفزّا ً لإنصات القراءة الأوّلي :
السرد يخون الواقع حتماً ، يُناقضه ُ ، يُشاكسه ُ ، يصطنع له ُ نصّاً خائناً ، يمكن أنْ يكون هو النص الذي نتخيّل كتابته ُ ، إذ يتحوّل إلى لعبة فائقة الخطورة في السخرية والتقويض والمغامرة ، وافتراض أدوار ووظائف وسلالات وشخصيات ، قد لاتكون موجودة في الواقع ، لكنّها أكثر مهارة في التعبير عن نفسها ، عبر الحكي ، وعبر صناعة واقع مُضاد ، أومُتخيّل .
إن َّ القراءة ، بعد َ أن تُكمل هذا المفتتح النقدي ، لم يَعُد الاستفزاز قائما ً كما في الدهشة الأولى ، إذ جاء التحليل بخلاصات مُعززَة ، لا تُبررتوصيف ( السرد الخائن ) فحسب ، بل تجعله ُ الواقعة التي حصلت والواقع المستمر على السواء . ولا أُخفي سؤالي ، هل كتب الفوّاز نقداً في هذا الكتاب أم رواية ؟ وهل مفردة ( رواية ) على غلاف الكتاب قد جاءت خطأً ؟ . وما يُزيد السؤال استطالة ، ماجاء في المفتتح الثاني ( السياسة وسرديات الشارع ) ..، وهو مفتتح توضيحي لا يخلو من رصد ٍ نقدي ، غير أنّه التمهيد لدخول تفاصيل الرواية وقد أزال الالتباس ، التباس التجنيس .
إن َّ كتابة رواية مع تحليل ونقد الواقع الذي جاء في الرواية ، عمل غير مسبوق فنيّاً ، حتى وإن ْ كشف َ هذا التحليل سريّة الرواية مُبكّراً ، وهكذا أراد َ الفوّاز أن يكون السارد / الناقد في الوقت ذاته ، وليس الحكواتي المتفرّج الناقل للحكايات ، وهي حكايات لا تغريب فيها ، إذ حصلت فعلاً ، ويعرفها معاصروها الأحياء . إذن نحن في مواجهة سرديّة عراقيّة واقعيّة .
2
رواية ( خيانات صاخبة ) استعادت محنة المثقفين العراقيين في زمن الحرب والحصار وتحوّلات الموقف السياسي والثقافي من خلال حياة أربع شخصيّات لا يصعب تحديدها : خضير ميري ، كان َ الأوضح من بينها ، والفوّاز كذلك ، إذ من غير الممكن أن يكون رصد الأحداث بهذه الدقّة وبسرد تشخيصي واقعي إن لم يكن من بين تلك الشخصيات .
إن َّ الخيانات ، وهي خيانات في عُرف السلطة طبعا ً ، كانت خيانات الثرثرة في الشارع والمقهى والحانات عن : السياسة ، الفكر ، الفلسفة ، الحريّة ، العوز ، الاعتراض على الحرب والهروب منها ، الاعتقالات ، السجون ، التفكير بالهجرة ، تغيير الانتماء قسراً .. إلخ . ثرثرات صاخبة – كان الاعتقاد بأنها الخلاص الوجودي - رصدها المخبرون وكانت تؤول وكأنها تخطيط لانقلاب ضد السلطة ، وقد أودت ( بالمثرثرين ) إلى التحقيق أوالسجن أوالجنون أوما يشبهه ُ .
إن َّ رصد حياة المثقفين وثرثراتهم في الشارع وما يتبعه ُ يعكس محنتهم الوجودية ، وقد كشفت الرواية عجزهم حين اعتبروا هكذا ثرثرات مقاومة ، كما أدانت اعتبارها خيانات ، غير أن َّ السارد أيضاً لا يُخفي حنقه ُ وامتعاضه ُ من أيّ التزام وكأنّه متطامن مع ذاته في احتمال حصول الخيانات :
وحدها الخيانة السياسيّة هي الكارثة ، وهي الدنس والكفر واللعنة ، إذ ستدفع بصاحبها إلى تغيير قواعد اللعبة ، والدفع إلى حافّة المتاهة والسجن والمقبرة ، لأن َّ السياسة هنا سلوك جماعي ، وهي عكس الزواج الذي لا جماعية له ُ ، وأن َّ الخيانة فيه ستكون باردة وسريّة ، وخاصّة بالجسد فقط ، لكن َّ الخيانة السياسيّة ستكون خيانة للروح كما قال أحد المنافقين .
3
في المفتتح الأخير من هذا القول :
1 رواية ( خيانات صاخبة ) تمتلك السبق السردي في تفاعلها مع حياة المثقفين في الشارع ، والسارد وعلى طول مساره السردي يُورد الوقائع ويلاحقها نقديّا ً ، أيّ أنّه ُ سارد نقدي أو ناقد سردي .
2 وضعت الرواية في نهايتها خلاصات مستقلّة لما آلت إليه مصائر الشخوص ، وهي حبكة لاحقة قلّما نتوافر عليها في كثير من السرديات الروائيّة .
3 بالإضافة إلى المجسّات النقدية ، لا تخلو الرواية من مجسّات شعرية متناوبة تُضفي على السرد إيقاعاً ينهض بالنثر أحيانا ً إلى مصاف الشعر ، بمعنى أن َّ الممكنات الإبداعيّة متداخلة .
4 كان الاختزال في المشاهد يمنح الرواية بناء ً مترابطاً لا يُثير الملل ، ويجعلها رواية لقطات متناوبة ، أيّ إنها رواية الاختزال بالمعنى الفنّي .
5 قد يجد كثير من القرّاء ما حصل َ له ُ من تعارضات ومصادفات غير سارّة في هذه الرواية ، كما وجدت ُ ما حصل َ لي تشابها ً .
6 غطّت الرواية زمنها ومكانها بتلميحات خاطفة من دون أن تثقلهما بالتوضيح .
تبقى رواية ( خيانات صاخبة ) رواية ثرثرات الاحتجاج التي تتبعها الخيانات العصريّة !

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

مسرحية "المحطّة"، نقد متأخّر

ندرة النقد التشكيلي...تشكيليون: لا يحظى النقد والتذوق الفني بالأولوية ضمن المناهج التعليمية

مذكرات أل باتشينو سردية لا تشبه بريق هوليوود

كارولين شيلينك رائدة الرومانسية الألمانية

موسيقى الاحد: موتسارت الاعجوبة

مقالات ذات صلة

من منسيات النقد الأدبي في العراق
عام

من منسيات النقد الأدبي في العراق

د. نادية هناوي القسم الثاني يوجب التاريخ النقدي الوقوف عند كتاب عبد القادر حسن أمين ( القصص في الأدب العراقي الحديث) والتأشير على الدور الريادي الذي به نهض هذا الباحث بنقد القصة أكاديميا، واضعا...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram