محمد الربيعي
يضع العراقيون امالا كبيرة على التشكيلة الوزارية الجديدة، المرتقب اعلانها قريبا، لتبني اصلاحات جذرية في مؤسسات الدولة، وعلى راسها التعليم العالي. فهذا القطاع الذي كان يوما ما منارة للعلم والمعرفة في المنطقة، اصبح اليوم رمزا للتدهور والفساد، حتى باتت الجامعات العراقية عاجزة عن اداء دورها الطبيعي في انتاج المعرفة وتخريج الكفاءات. ان اعادة بناء التعليم العالي ليست ترفا سياسيا او شعارا انتخابيا، بل ضرورة وجودية لانقاذ مستقبل العراق العلمي والاقتصادي، واعادة الاعتبار لدور الجامعة كمحرك للتنمية الوطنية.
تؤكد البيانات الرسمية حجم الأزمة، اذ اشار تقرير مجلس النواب العراقي لعام 2023 الى ان عدد طلبة الدراسات الأولية تجاوز المليون طالب، نصفهم تقريبا في الجامعات الأهلية، وهو ما يعكس خللا خطيرا في التوازن بين التعليم الحكومي والأهلي. وكشفت هيئة النزاهة الاتحادية عام 2024 أن عشرات الجامعات والكليات الأهلية لم تسدد حصتها من الإيرادات منذ سنوات وان معظمها يعمل بمستوى كلية لا جامعة، داعية إلى تعديل قانون التعليم الأهلي رقم 25 لسنة 2016. هذه الحقائق الرسمية تتقاطع مع ما طرحته في مقالاتي النقدية حول التعليم العالي، حيث شددت على أن التوسع غير المنضبط في الجامعات الأهلية ادى الى فقدان القيمة المعنوية للشهادات وانتشار ما وصفته بـ"الأمية المخفية"، كما تناولت في تحليلاتي أثر الفساد وضعف التشريعات على انهيار البنية الجامعية. والى جانب ذلك، تناولت مقالات أكاديمية واعلامية أخرى مثل ما نشر في "الحوار المتمدن" ومجلة "صوتها" و"الهدى" واقع الجامعات الأهلية بوصفه نموا سريعا يثير الجدل حول جودة التعليم، مؤكدة أن معظم هذه المؤسسات تأسست بعد 2003 بشكل غير مدروس، الأمر الذي عمّق الأزمة وأفقد التعليم العالي رصانته العلمية.
ان السؤال المطروح اليوم ليس ما اذا كانت الحكومة الجديدة ستتبنى اصلاحات شكلية، بل ما اذا كانت ستجرؤ على مواجهة جذور الازمة: التسييس والفساد وضعف التمويل وغياب الجودة. فبدون معالجة هذه القضايا، سيظل التعليم العالي في العراق مجرد مؤسسة متعثرة، عاجزة عن مواكبة متطلبات التنمية او المنافسة اقليميا وعالميا.
الاخطاء التي دمّرت التعليم العالي في العراق
لقد تحولت الجامعات العراقية، التي كانت يوما ما منارات للعلم والمعرفة، الى مؤسسات متصدعة اشبه بالمصانع الصدئة التي تنتج شهادات لا قيمة لها في سوق العمل. الازمة ليست مجرد نقص في الامكانات، بل منظومة كاملة من الاخطاء والاختلالات التي ضربت اساس التعليم العالي:
•التسييس المفرط وتغييب الحريات الاكاديمية:
الجامعات اصبحت ساحات نفوذ حزبي وطائفي، حيث يتم تعيين القيادات الاكاديمية على اساس الولاء لا الكفاءة. الاساتذة الذين يجرؤون على النقد يُعاقبون، والحريات الاكاديمية تكاد تكون معدومة. تقرير اليونسكو والاتحاد الاوروبي (2024) شدد على ان غياب الحوكمة الرشيدة في التعليم العالي العراقي يعيق التنمية المستدامة ويقوض استقلالية المؤسسات الاكاديمية.
•التمويل المحدود وسوء الادارة:
العراق من بين الدول التي لم تحقق اهداف التمويل الكافي للتعليم العالي، حيث لا تتناسب الميزانيات المرصودة مع حجم التحديات والاحتياجات الفعلية للجامعات. هذا النقص انعكس على صيانة البنى التحتية وتطوير المختبرات وتوفير التقنيات الحديثة. كما ان غياب اليات شفافة لتوزيع الموارد ادى الى مشاريع شكلية بلا اثر ملموس، وهو ما اكدته تقارير UNESCO-UNEVOC.
•مناهج متحجرة لا تواكب العصر:
لا تزال المناهج اسيرة عقود مضت، بعيدة عن متطلبات الثورة الصناعية الرابعة، مما يفسر ارتفاع معدلات البطالة بين الخريجين. الاف الطلبة يتخرجون سنويا دون امتلاك المهارات المطلوبة لسوق العمل المحلي والعالمي.
•بحث علمي زائف يركز على الكم لا النوعية:
نتائج التصنيف العراقي للجامعات (2023) اظهرت ان 30% من التقييم يعتمد على البحث العلمي، لكن معظم الجامعات تركز على الكم لا النوعية، مما يعكس ازمة في جودة البحث. التركيز على التصنيفات العالمية التجارية والنشر الكمي حوّل البحث العلمي الى سباق شكلي بعيد عن معالجة مشاكل العراق الحقيقية، مثل المياه والتصحر والطاقة والتلوث. وفي هذا السياق، اشار الكثيرون ومنهم نقيب الأكاديميين العراقيين السابق، الى ان العديد من التصنيفات التي تتنافس عليها الجامعات العراقية هي “تجارية ووهمية”.
•التعليم الاهلي كازمة وطنية:
وفق تقرير مجلس النواب العراقي (2023)، الجامعات الاهلية تستوعب اكثر من 50% من الطلبة الجدد، كثير منها مرتبط بمصالح سياسية او مالية. هذا التوسع غير المنضبط ادى الى تفشي ظاهرة الشهادات السهلة والبحوث المشتراة، مما يمثل استخفافا خطيرا بقيمة التعليم العالي. بعض هذه المؤسسات تحولت الى "اسواق شهادات" بلا معايير، وهو ما يهدد الثقة بالشهادة العراقية محليا ودوليا. وقد أكد عدد من التدريسيين هذه المخاوف، مبينين ان الجامعات الأهلية تلجأ الى مكاتب وهمية لترويج تصنيفاتها وتحسين صورتها، مما يضلل الطلبة وأولياء الأمور.
مقارنات مع التجارب العربية الناجحة
•المغرب: اقرّ اصلاحا يمنح الجامعات استقلالية مالية وادارية، مع امكانية انشاء شركات بحثية وشراكات مع القطاع الخاص.
• مصر: ضمن رؤية مصر 2030، تم تحديث المناهج وادخال تخصصات جديدة مرتبطة بالتنمية الاقتصادية مثل الطاقة المتجددة والتكنولوجيا المالية.
•الاردن: اعتمد استراتيجية "العناقيد"، حيث تتخصص الجامعات في مجالات مرتبطة بالاقتصاد المحلي، مما عزز التكامل بين التعليم والاقتصاد.
مقارنات مع التجارب العالمية
•فنلندا: جعلت الحرية الاكاديمية والبحث التطبيقي اساساً للتعليم العالي.
•كوريا الجنوبية: ربطت التعليم العالي مباشرة بالصناعات الوطنية، فكانت الجامعات محرّكا رئيسيا لنهضة التكنولوجيا.
•اليونسكو (2024) : اوصت بان الدول الناجحة ركزت على التمويل المستدام والعدالة في القبول والرقمنة.
•الصين: اعتمدت على التخطيط المركزي وربط الجامعات بمشاريع قومية كبرى (مثل مبادرة "صنع في الصين 2025")، فكان التعليم العالي أداة لتأهيل الكفاءات في مجالات الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، مع استثمارات ضخمة في البحث التطبيقي.
•سنغافورة: جعلت من الجامعات مراكز ابتكار مرتبطة مباشرة بالقطاع الخاص العالمي، وركزت على التعليم متعدد التخصصات والحوكمة الرشيدة، مما جعلها مركزا اقليميا للبحث والتطوير وجذب الكفاءات الدولية.
مقترحات اصلاح للتعليم العالي في العراق
1-استقلالية الجامعات وانهاء التدخلات السياسية والدينية: لا يمكن لاي اصلاح ان ينجح ما دامت الجامعات اسيرة نفوذ الاحزاب والطوائف. المطلوب هو ضمان استقلالية الجامعة بشكل كامل، بحيث تدار وفق معايير اكاديمية ومهنية بحتة، بعيدا عن اي تدخل سياسي او ديني او مصالح ضيقة. تقرير اليونسكو والاتحاد الاوروبي شدد على ان غياب الحوكمة الرشيدة في التعليم العالي العراقي يعيق التنمية المستدامة ويقوض استقلالية المؤسسات الاكاديمية. تجارب المغرب ومصر اثبتت ان منح الجامعات استقلالية مالية وادارية يعزز الابتكار ويربط التعليم بسوق العمل.
2-تمويل حقيقي لا شعارات: العراق من بين الدول التي لم تحقق اهداف التمويل الكافي للتعليم العالي، وفق التقارير الدولية. المطلوب رفع ميزانية التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار الى مستويات تتناسب مع حجم التحديات، وتوجيهها الى تطوير المختبرات والمكتبات الرقمية والتقنيات الحديثة.
3-ثورة في المناهج وتخصصات المستقبل: المناهج الحالية لا تزال اسيرة عقود مضت، بعيدة عن متطلبات الثورة الصناعية الرابعة. المطلوب تحديث شامل وادخال تخصصات حديثة مثل:
oادارة الموارد المائية والهندسة البيئية المستدامة لمواجهة التصحر وشح المياه.
oالزراعة الذكية والذكاء الاصطناعي لتحسين الانتاج الغذائي.
oالامن السيبراني والمدن الذكية لحماية البنية الرقمية وتطوير الحضر.
oالصحة العامة وادارة الاوبئة وعلم النفس المجتمعي لمعالجة الازمات الصحية والاجتماعية.
هذه التخصصات وغيرها من التخصصات الحديثة ستربط التعليم العالي مباشرةً بمشاكل العراق الواقعية: المياه والتصحر والتنمية والطائفية والفساد والبطالة. تجارب الاردن في استراتيجية "العناقيد" اثبتت ان ربط الجامعات بالاقتصاد المحلي يعزز التكامل ويزيد القيمة المضافة.
4-استعادة الكفاءات المهاجرة: الاف الاساتذة والباحثين العراقيين هاجروا بسبب الظروف الطاردة. المطلوب اطلاق برامج وطنية لجذبهم عبر تحسين ظروف التدريسيين، وتوفير بيئة اكاديمية امنة ومحفزة. الامثلة كثيرة ومنها تجارب فنلندا وكندا في استقطاب العقول المهاجرة التي اثبتت ان الاستثمار في الكفاءات البشرية هو اساس بناء اقتصاد المعرفة.
5-بحث علمي يخدم الوطن لا التصنيفات: لا يمكن للنهوض العلمي ان يتحقق في ظل تفشي الفساد الاكاديمي وظاهرة شراء الاوراق والبحوث الجاهزة. المطلوب مواجهة هذه الممارسات بصرامة عبر تشريعات ورقابة اكاديمية حقيقية، وربط الترقيات والامتيازات بجودة ونوعية الابحاث لا بعددها. التركيزعلى الكم لا النوعية هو اساس التدهور. المطلوب تاسيس صناديق وطنية لدعم الابحاث التطبيقية التي تخدم التنمية المستدامة، مع الزام الجامعات بتوجيه جهودها البحثية نحو معالجة القضايا الملحة مثل المياه والطاقة والصحة.
6-ضبط التعليم الاهلي وانهاء الفساد الاكاديمي: وفق تقرير مجلس النواب العراقي (2023)، الجامعات الاهلية تستوعب معظم الطلبة الجدد، كثير منها مرتبط بمصالح سياسية او مالية . المطلوب اليوم ليس فقط وقف التوسع غير المدروس، بل اخضاع الجامعات الاهلية لرقابة صارمة على الجودة وربط استمرارها بتحقيق معايير الاعتماد الاكاديمي الوطنية والدولية. كما يجب مواجهة تجارة الشهادات والبحوث المشتراة عبر تشريعات واضحة وعقوبات رادعة.
7-اصلاح العلاقة داخل الجامعات: البيئة الجامعية العراقية تعاني من فقدان الثقة بين التدريسيين والادارات، مما اثر على الامان الوظيفي والحرية الاكاديمية. المطلوب اعادة بناء هذه العلاقة عبر ضمان حرية التعبير والامان الوظيفي وتقدير القيمة الاكاديمية للتدريسيين. يمكننا دراسة تجربة فنلندا في تعزيز الحريات الاكاديمية في هذا الصدد ليتبين لنا ان توفير بيئة امنة وشفافة هي اساس الابتكار والابداع.
اخيرا
ان اصلاح التعليم العالي في العراق يتطلب خطة وطنية شجاعة تستلهم من التجارب العربية والعالمية، وتستند الى تقارير دولية واحصاءات وطنية. المطلوب ليس مجرد تحسين شكلي، بل مواجهة جذرية للتسييس والفساد، وضمان استقلالية الجامعات وتمويل مستدام ومناهج حديثة وبحث علمي نوعي وضبط التعليم الاهلي. عندها فقط يمكن للجامعة العراقية ان تستعيد مكانتها كقاطرة للتنمية والاصلاح الشامل.









