علي الياسري
لا ابالغ ان قلت ان فيلم (النار في الداخل) للمخرج لوي مال واحد من نخبة افضل الافلام التي شاهدتها. تتجلى الصنعة الفنية السينمائية بأبهى صورها في التقاط جوهر الوجودية الفرنسية حيث الانسان الباحث عن معنى ازاء ألم الحياة، متأرجحًا بين الفراغ النفسي وعزلة الوحدة والضياع في دوامة الكآبة والصمت الشعوري.
مال الصانع هو الوجه السينمائي الاسمى لتجسيد تنوع الموجة الفرنسية الجديدة من خلال عدم انتهاجه لأسلوب معين وتقلبه بين الانماط، لذا ستجد ان اغلب اعماله هي ملفتة ترسخ في ذاكرة المتلقي وتترك انطباعات مميزة عن اهميتها بسبب الصدق العاطفي والدرامي والرسوخ التعبيري عن السرد السينمائي وبناء الشخصيات وبلورة حضورها الطاغي على الشاشة فهو كما يصفه ديفيد هير يمتلك عبقرية تشيخوفية لتغييب نفسه فلا يُرى سوى فعله الابداعي. ان اطلالة على افلام مثل مصعد الى المشنقة، ضرر، الى اللقاء يا اطفال، عشائي مع اندريه، لاكومب لوسيان، اتلانتك سيتي ستؤكد تلك الفرادة والتميز الذي يطبع سينماه بالتنوع الجاذب.
بهذا المشهد من (النار في الداخل) يؤطر لوي مال مفهومه لرواية الكاتب بيير لاروشيل من خلال اللقطات القريبة والمونتاج الذي لاينسى فيه اهمية الاستغراق في زمن اللقطة المناسب يضيف اليها قوة شعورية بالاستعانة بموسيقى اريك ساتي الرائعة والتي تتجول حول الذات فتعيد النظر الى وجوه الناس ووجه (موريس رونيه) -احد افضل الممثلين الذين باستطاعتهم تجسيد الالم بالصمت والحزن بالنظرات والوجع بتقاسيم الوجه المُبَّسطة- لالتقاط كل التبعثر النفسي حد الضياع في ازمة وجود مستفحلة تقف على هاوية لا مناص من السقوط فيها. يلتقط مال كيف ان لاشئ يحركه او يجذب انتباهه لا نظرات انثوية، ولا سرقة رجل عجوز اشياء من طاولة المقهى، ولا حتى حوارات الناس المستطرقين في الشارع وحيوية حياتهم. فترى مقارنة بصرية عميقة بين صخب الارواح المتعافية من فراغ اليأس الوجودي وصمت ولا ابالية الاغتراب الروحي القاتم وعزلته القاتلة.
*في الذكرى 93 على ولادة المخرج الكبير لوي مال
ذاكرة السينما: النار في الداخل

نشر في: 18 ديسمبر, 2025: 12:17 ص








