جورج منصور
الديمقراطية الحديثة نتاج تطور فلسفي وثقافي استغرق قروناً. فهي ليست مجرد صناديق اقتراع أو تداول سلطة، بل هي رؤية شاملة تقوم على عدة أسس: الفرد بوصفه وحدة الدولة الأساسية، والمواطنة بوصفها هوية سياسية مشتركة، والمساواة أمام القانون، والمساءلة والمحاسبة، والدولة بوصفها كياناً محايداً فوق الانتماءات.
في المقابل، الطائفية السياسية تقوم على: الجماعة (الطائفة/العرق/المذهب) بوصفها المجال السياسي الأول، وتقاسم السلطة لا تداولها، وقيم الحماية لا قيم المواطنة، والزعيم الطائفي بوصفه ممثلاً للجماعة لا للأمة. أي أن الطائفية ليست مجرد "خطأ" في التطبيق، بل نظام مضاد للديمقراطية في فلسفته العميقة. ولهذا السبب، لا توجد ديمقراطية مستقرة في العالم قامت فوق أساس طائفي دائم.
منذ سقوط النظام السابق وبداية ما يُعرف بالجمهورية الثانية عام 2003، دخل العراق في تجربة سياسية حاولت أن تجمع بين الديمقراطية والمحاصصة الطائفية. لم يكن هذا التزاوج طبيعياً ولا منطقياً، بل كان منذ البداية، تعبيراً عن تناقض بنيوي بين فكرتين متضادتين: إحداهما تقوم على المواطنة الفردية، والأخرى تقوم على الهوية الجماعية.
اليوم، بعد أكثر من عقدين، لم يعد السؤال هو "هل فشلت الديمقراطية في العراق"؟، بل أصبح: كيف يمكن للديمقراطية أن تنجح أصلاً داخل نظام طائفي؟ وهل هناك مثال في العالم يشبه ما "يحاول" العراق فعله؟
لماذا فشلت الديمقراطية في العراق؟
لم تُبن الدولة العراقية بعد عام 2003 بوصفها سلطة محايدة، بل بوصفها ساحة تفاوض بين المكونات. فتحولت الوزارات إلى "إقطاعيات"، والمناصب إلى "حصص"، والقرار إلى "توافقات". وحين يصبح الانتماء الطائفي شرطا للوصول إلى المنصب ، يتحول السياسي تلقائياً إلى ممثل لجماعته، لا إلى خادم للمصلحة العامة. كما توفر الطائفية مظلة حماية للفساد، فمن يسرق بأسم طائفته يُنظر إليه على أنه "مدافع" عنها، لا كفاسد.
لا برامج، لا محاسبة، لا تنافس. بل إعادة تدوير ذات القوى بذات الخطاب الطائفي. ولا حكومة تستطيع تنفيذ خطتها لأن القرار موزع بين أحزاب تختلف في الأولويات وتتنافس على النفوذ.
دروس من العالم. كيف تعاملت دول أخرى مع الطائفية؟
لبنان: يشبه العراق أكثر من أي بلد آخر. نظام المحاصصة فيه (رئيس ماروني، رئيس حكومة سني، رئيس مجلس شيعي) يجعل منه ديمقراطية في الشكل، طائفية في الجوهر: محاصصة دستورية، وأحزاب طائفية، واقتصاد ريعي- زبائني، وضعف في الدولة، وتدخلات خارجية. بعد عقود من هذا النظام، النتيجة واضحة: شلل سياسي مزمن، وانهيار اقتصادي، وانعدام الثقة في الدولة.
يقدم لبنان مثالاً صارخاً على أن الطائفية، حتى لو رُسخت في الدستور، لا تنتج دولة قوية. ودرس لبنان للعراق واضح: الطائفية ليست ضمانة لاستقرار المكوّنات، بل ضمانة لشلل الدولة.
البوسنة والهرسك: بعيش هذا البلد منذ حرب التسعينيات واتفاق دايتون (1995) تحت نظام توافقي فُرض عليه يحكمه "الشعوب الثلاثة": البوشناق، والصرب، والكروات. مع رئاسة ثلاثية، وبرلمان منقسم، وقرارات تتطلب توافقاً دائماً. والنتيجة: إصلاحات متوقفة، وبنية دولة ضعيفة، وانقسام دائم. وهذا يثبت أن التوافق الطائفي لا يصنع دولة تقدّم، بل دولة انتظار.
جنوب أفريقيا: عاشت عقوداً من الفصل العنصري (الأربارتايد) القائم على الهوية العرقية. جاء التحول عبر دستور جديد، والمساواة الكاملة، والمصالحة الوطنية، ونزع الطابع العرقي عن السلطة. لم تزدهر الديمقراطية إلا بعد تفكيك منظومة الهوية السياسية.
رواندا: شهدت واحدة من أسوأ المجازر الطائفية في القرن العشرين بين الهوتو والتوتسي. لكن بعد مجازر 1994، اختارت رواندا مساراً حاداً: منع التصنيف العرقي، وبناء دولة مركزية قوية، وإصلاح إداري شامل، وتمكين اقتصادي واسع. كانت النتيجة أسرع اقتصاد أفريقي نمواً. ورغم أن النظام ليس ليبرالياً بالكامل، إلا أنه نجح في إنهاء حكم الهوية.
أوروبا الشرقية: تجاوزت دول مثل سلوفاكيا وصربيا ومقدونيا الشمالية وتشيكيا انقساماتها القومية من خلال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وبناء مؤسسات مشتركة، وسن قوانين انتخابات وطنية، واعتماد اقتصاد السوق. كانت الهوية حاضرة اجتماعياً، لكنها لم تتحوّل إلى أداة حكم.
إذن، لا تصلح الديمقراطية في نظام طائفي. فلا توجد دولة في العالم نجحت ديمقراطياً إذا كانت بنيتها قائمة على الطائفية السياسية. قد تنجح الأنظمة السلطوية أو الهجينة لفترة، وقد تستمر دول المحاصصة بشكل هش، لكن دولة القانون والديمقراطية والمواطنة تحتاج إلى شرط أولي: أن يكون المواطن هو أساس السياسة، لا الطائفة.
العراق اليوم لا يعاني من نقص في الديمقراطية، بل يعاني من طغيان الطائفية على الدولة. وحين تتحرر الدولة من الهوية السياسية، يبدأ الإصلاح الحقيقي. الديمقراطية ليست المشكلة. بل المشكلة هي القيد الذي يمنعها من العمل، وهذا القيد هو الطائفية السياسية.
كيف يمكن للعراق الخروج من النظام الطائفي؟
إن الحل الوحيد لتحرير الديمقراطية من الطائفية السياسية يكمن في الإصلاح الجذري، لا في تغيير الوجوه. ويتمثل ذلك بإعادة بناء عميقة تشمل:
1. إصلاحاً دستورياً: ينهي منطق "التوزيع المكوناتي" ويعيد تعريف المناصب بوصفها مسؤوليات وليست حصصاً.
2. قانوناً حقيقياً للأحزاب: يحظر امتلاك الأحزاب للسلاح، ويفرض الشفافية المالية، ويشجع قيام أحزاب وطنية ذات برامج.
3. قانوناً انتخابياً: يعيد السياسة إلى الناس، ويحوّل الدوائر الانتخابية إلى مساحات برامجية واسعة، ويمنع تفتيت الصوت وفق اعتبارات الهوية.
4. استقلالاً للقضاء: وهو الأهم، لأنه الضمانة الوحيدة لردع الفساد ومحاسبة السلطة وتصحيح الأخطاء البنيوية.
5. بناء وعي اجتماعي جديد: يتطلب تجاوز ثقافة "التمثيل الطائفي" إلى ثقافة "الحقوق المدنية". فلا يمكن لأي دولة أن تنهض إذا بقي المواطن ينظر إلى الدولة كخصم وإلى الطائفة كملاذ.
فالديمقراطية ليست صندوق اقتراع فحسب، وليست عملية انتخابية تتكرر كل أربع سنوات. الديمقراطية، بمعناها الجوهري، تقوم على ثلاث ركائز:
- المواطنة المتساوية أمام القانون.
- المساءلة والمحاسبة.
- التداول السلمي على السلطة وفق برامج لا هويات.
هذه الركائز لا تعمل إلا حين تكون الدولة قادرة على فرض القانون على الجميع، وتوفير فرص متساوية، وضمان أن يكون السياسي خادماً للمصلحة العامة لا ممثلاً لجماعة مغلقة.
العراق اليوم يقف أمام مفترق طرق تأريخي: إما الاستمرار في نظام طائفي يعيد إنتاج نفسه جيلاً بعد جيل، بما يحمله من فساد وعجز وضعف دولة؛ وإما الانتقال إلى دولة مدنية ديمقراطية تحترم التنوع لكنها لا تقوم على أساسه السياسي.
الديمقراطية ليست نقيضاً لهوية المجتمع، لكنها نقيض للطائفية حين تتحول إلى أداة حكم. وكلما طالت سيطرة الطائفية على مفاصل الدولة، تراجعت قدرة الديمقراطية على أداء وظائفها الأساسية.










